وهنا يأتي سؤال ، وهو : إنّ الآيات السابقة قد ذكرت أنّ الله لا يسألكم أموالكم ، فكيف أمرت هذه الآية بالإنفاق في سبيل الله؟
غير أنّ تتمة الآية تجيب عن هذا السؤال عن طريقين ، فتقول أولا : (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) (١) لأنّ ثمرة الإنفاق تعود عليكم أنفسكم في الدنيا والآخرة ، حيث يقل التفاوت الطبقي ، وعندها سيعم الأمن والهدوء في المجتمع ، وتحل المحبّة والصفاء محل العداوة والحقد. هذا ثوابكم الدنيوي.
وأمّا في الآخرة ، فستمنحون مقابل كلّ درهم أو دينار تنفقونه الهبات والنعم العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر ، وعلى هذا فإنّ من يبخل يبخل عن نفسه! وبتعبير آخر : فإنّ الإنفاق هنا يعني أكثر ما يعني الإنفاق في أمر الجهاد ، والتعبير بـ (فِي سَبِيلِ اللهِ) يلائم هذا المعنى أيضا ، ومن الواضح أنّ أي نوع من المساهمة في تقدّم أمر الجهاد سيضمن وجود المجتمع واستقلاله وشرفه.
والجواب الآخر هو : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) فهو غني عن إنفاقكم في سبيله ، وغني عن طاعتكم ، وإنّما أنتم الفقراء إلى لطفه ورحمته وثوابه وكرمه في الدنيا والآخرة.
إنّ الموجودات الممكنة ـ وما سوى الله سبحانه ـ متسربلة في الفقر جميعا ، والغني بذاته هو الله سبحانه لا غير ، فإنّها فقيرة إليه دائما ، حتى في أصل وجودها ، وتستمد العون من منبع الفيض الأزلي كلّ لحظة ، فإذا انقطعت عنها رعايته ولطفه لحظة ، فسينتهي وجودها ، وتخرّ أبدانها جثثا هامدة!
وتحذر الجملة الأخير جميع المسلمين أن اعرفوا قدر هذه النعمة الجليلة ، والموهبة العظيمة ، حيث جعلكم سبحانه حماة دينه القويم وأنصار دينه وأتباع رسوله وأصحابه ، فحذار أن تقصروا في تعظيم هذه النعمة وإكبارها ، إذ : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ).
__________________
(١) «البخل» يتعدّى مرة بعن ، وأخر بعلى ، وعلى الأوّل يعني المنع ، وعلى الثّاني يعني الإضرار.