وأكثر من هؤلاء جميعا ، أولئك الذين يتحصّنون بالتقاة ، ويعيشون داخل الكيان الطاغوتي ، حيث يتعرضون لعمليات غسل الدماغ المستمرة ، وترتبط مصالحهم ورغباتهم ومجمل وشائج حياتهم بعجلة النظام ، وفي ذات الوقت يكتمون إيمانهم ، وتكاد صدورهم تتفجّر ضيقا بالأسرار التي يحملونها ، فما الذي ينقذهم من هذا الوضع ، وأيّ وقود إيمانيّ يمدّهم بطاقة الاستمرار وقدرة الاستقامة .. حيث لا صلة بالقيادة ، ولا تفاعل مع المجتمع الإيماني ، ولا جلسات للتعبئة الروحية ، ولا برامج اجتماعية ، ولا مصالح مشتركة مع المؤمنين.
لقد فتح الله لهؤلاء وأولئك جميعا باب الدعاء حيث تتصل قلوبهم بنور ربّهم مباشرة ، وينهلون من نبع التوحيد الأصفى ما يمدّهم بالرجاء والثقة والاستقامة فقال ربّنا :
(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)
ما هو هذا الدعاء؟ قال المفسرون إنّه طلب الحاجة من الله ، وتفرّد ابن عباس بتفسير آخر حيث قال انّه توحيد الله ، ويبدو لي أنّ ابن عباس التقط إشارة خفيّة من الآية حيث أرهف سمعه الى ضمير «ادعوني» وعرف أنّ المعنى لا تدعو من دوني أحدا ، وحقّا : إنّ الإنسان إمّا أن يدعو ربّه أم يدعو الأنداد .. والله يأمرنا بدعوته دون الأنداد ، وسوف نرى ـ إن شاء الله ـ كيف أنّ الدعاء أسمى درجات التوحيد.
وعند ما وعد ربّنا الاستجابة فإنّ ذلك يكون شرطا ضمنيّا بأن يكون الدعاء خالصا لله ، كما قال سبحانه : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) .