سمعت علي بن الحسين ـ سيد العابدين ـ يحتسب نفسه ويناجي ربه ويقول :
يا نفس حتام إلى الدنيا غرورك؟ وإلى عمارتها ركونك؟
أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك؟ ومن وارته الأرض من ألّافك ومن فجعت به من إخوانك؟ ونقل البلى من أقرانك؟
فهم في بطون الأرض بعد ظهورها |
|
محاسنهم فيها بوال دواثر |
خلت دورهم منها وأقوت عراصهم (١) |
|
وساقتهم نحو المنايا المقادر |
وخلّوا عن الدنيا وما جمعوا لها |
|
وضمتهم تحت التراب الحفائر |
كم تخرّمت أيدي المنون من قرون بعد قرون؟ وكم غيرت الأرض ببلاها؟ وغيبت في ثراها ممن عاشرت من صنوف الناس وشيعتهم إلى الأرماس؟
وأنت على الدنيا مكبّ منافس |
|
لخطائها فيها حريص مكاثر |
على خطر تمسي وتصبح لاهيا |
|
أتدري بما ذا لو عقلت تخاطر |
وإن امرأ يسعى لدنياه دائبا |
|
ويذهل عن أخراه لا شكّ خاسر |
فحتام على الدنيا اقبالك؟ وبشهواتها اشتغالك؟ وقد وخطك القتير (٢) ، وأتاك النذير ، وأنت عما يراد بك ساه؟ وبلذة نومك لاه؟
وفي ذكر هول الموت والقبر والبلا |
|
عن اللهو واللّذات للمرء زاجر |
أبعد اقتراب الأربعين تربّص |
|
وشيب قذال منذر لك كاسر |
كأنّك تعنّي بالذي هو صائر |
|
لنفسك (٣) عمدا أو عن الرشد حائر |
انظر إلى الأمم الماضية ، والملوك الفانية ، كيف أفنتهم الأيام ، ووفاهم الحمام ، فانمحت من الدنيا آثارهم ، وبقيت فيها أخبارهم.
وأضحوا رميما في التراب وعطّلت |
|
مجالس منهم أقفرت ومقاصر |
وخلّوا بدار لا تزاور بينهم |
|
وأنّى لسكان القبور تزاور |
فما أن ترى إلّا جثّى قد ثووا بها |
|
مسطّحة تسفي (٤) عليها الأعاصر |
كم ذى منعة وسلطان ، وجنود وأعوان ، تمكن من دنياه ، ونال فيها ما تمناه ، وبنى
__________________
(١) الأصل : عياصهم ، والمثبت عن م و «ز».
(٢) القتير : الشيب ، أو أوله (القاموس المحيط).
(٣) الأصل : «لسعيك عقدا» والمثبت عن «ز».
(٤) بالأصل وم و «ز» : تسقى ، والمثبت عن المختصر.