ثم رحلنا من الموصل ونزلنا قرية تعرف بعين (٢٧٣) الرّصد وهي على نهر عليه جسر مبنيّ ، وبها خان كبير ، ثم رحلنا ونزلنا قرية تعرف بالمويلحة (٢٧٤) ثم رحلنا منها ونزلنا جزيرة ابن عمر (٢٧٥) وهي مدينة كبيرة حسنة محيط بها الوادي ، ولذلك سميّت جزيرة ، وأكثرها خراب ، ولها سوق حسنة ومسجد عتيق مبنّى بالحجارة محكم العمل ، وسورها مبنىّ بالحجارة أيضا واهلها فضلاء لهم محبّة في الغرباء ، ويوم نزولنا بها رأينا جبل الجودى المذكور في كتاب الله عزوجل (٢٧٦) الذي استوت عليه سفينة نوح عليهالسلام ، وهو جبل عال مستطيل.
ثم رحلنا منها مرحلتين ووصلنا إلى مدينة نصيبين (٢٧٧) ، وهي مدينة عتيقة متوسّطة قد خرب أكثرها وهي في بسيط أفيح فسيح فيه المياه الجارية ، والبساتين الملتفّة ، والأشجار المنتظمة ، والفواكه الكثيرة ، وبها يصنع ماء الورد الذي لا نظير له في العطارة والطيب ، ويدور بها نهر يعطف عليها انعطاف السوار منبعه من عيون في جبل قريب منها ، وينقسم انقساما فيتخلّل بساتينها ، ويدخل منه نهر إلى المدينة فيجرى في شوارعها ودورها ويخترق صحن مسجدها الأعظم وينصبّ في صهريجين أحدهما في وسط الصحن والآخر عند الباب الشرقي.
__________________
(٢٧٣) عين الرّصد وصفها ابن جبير (ص ١٩١) بأنه" رحل من قرية من قرى الموصل صباح السبت وأدرك القيلولة بعين الرصد" وربما كانت هي الموقع المعروف باسم كيزليك كوبروKizlek Kopru على بعد ٢٥ ميلا شمال غربي الموصل.
(٢٧٤) المويلحة ربّما كانت على مقربة من (تل عوينات) الحالي على بعد ٢٢ ميلا شمال غربي كيزليك كوبرو.
(٢٧٥) هي شزر (Cizre) التي تقع في خريطة تركيا الحالية على بعد ٩٠ ميلا شمال غربيّ الموصل ... وعوض أن يذكرها ابن جبير بهذا الاسم ذكر اسم جدال التي قال إن لها حصنا عتيقا (ص ١٩١) محطة موالية للمويلحة وعلى مسافة يوم من نصيبين ، ويذكر ابن حوقل" أن بها تجارة دائمة على مر الأوقات ، ويذكر مستوفي أنه كان بها مئات القرى ، وكانت المدينة القديمة تكوّن جزيرة على دجلة وكانت محكومة في تلك الفترة من قبل أسرة كردية متنفذة استمرت إلى عام ١٠٠٤ ١٥٩٦ ـ يراجع التعليق ٦٧.
(٢٧٦) ورد في القرآن الكريم السورة ١١ ، الآية ٤٤ : " وقيل : يأرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودى ... والجبل المذكور ذو علوّ ٦٠٠٠ قدم ... ، يوجد على أربعين كيلوميترا شرقي جزيرة ابن عمر المذكورة والموجودة اليوم كما قلنا ضمن الأراضي التركية ـ وقد زرنا هذه المنطقة حيث كنا ضيوفا على أهلها أمام الجبل الذي يحمل إلى الآن عندهم اسم الجودي ، والإقليم غني بجماله وخصبه وشهامة أهله وهم من الأكراد ، يراجع التعليق السابق.
(٢٧٧) نصيبين المعروفة عند الرومان ب (La Nisibis) توجد اليوم ضمن الأراضي التركية على بعد نحو مائة كيلوميترا غربي جزيرة ابن عمر ، ويستفاد من ابن حوقل أن نصيبين كانت أكثر أهمية من الموصل وقد زارها عام ٣٥٨ ٩٦٩ فأطنب في وصفها ... وقد حكى ياقوت عن ظروف فتحها على يد عياض بن غنم الذي فتحها صلحا على مثل فعله مع أهل الرّها والذي يعتبر من طلائع الدبلوماسية الإسلامية الناجحة.