ثم استدعاه الوزير الفاضل لما بلغه فضله ، فانحاز إليه واشتد اختصاصه به وحل منه محل الواسطة من العقد ، فسير فيه قصائد فائقة وأنشدني منها جلها فلم يعلق في خاطري منها إلا قوله من قصيدة حسنة التركيب وذلك محل التخلص منها :
ولرب يوم قد تلفعت الضحى |
|
منه بثوبي قسطل وغمام |
حسرت قناع النقع عنه عصبة |
|
غبر الوجوه مضيئة الأحلام |
متجردين إلى النزال كأنما |
|
يتجردون لواجب الإحرام |
لا يأنسون بغير أطراف القنا |
|
كالأسد تألف مربض الآجام |
يسري بهم نجمان في ليل الوغى |
|
رأي الوزير وراية الإسلام |
ثم ترقى عنده في المنزلة حتى استدعاه إليه وصيره نديم مجلسه الخاص ، فحسده حواشي الوزير ، ودخل إليه أحدهم في زي ناصح يقول له : إن حال الدولة في تقلباتها ليس بالخفي ، وقد أمكنت الفرصة ، فإذا طلبت قضاء نلت ما طلبته على الفور. فانساغ لهذا القول ووقعت منه هفوة الطلب والإلحاح ، فانحرف الوزير عليه وظن أنه سئم من مجلسه ، فوجه إليه قضاء ديار بكر استقلالا ، فتوجه إليه ، وكان مع خبرته وتجربته للأمور سيىء التدبير ، فانزوى عن الاجتماع بأحد وفوض أمر القضاء لرجل من أتباعه ، فتجاوز الحد في أخذ مال الناس رشوة ، ولم يمكنهم عرض ذلك على السيد صاحب الترجمة ، فشكوا أمرهم إلى جانب السلطنة فعزلوه ، وانخفض قدره وأقام مدة طامعا في أن يحصل على غرض من أغراضه فما قدر له. واستمر بالروم نحو خمسة أعوام منزويا ، واجتمعت به أيام انزوائه بقسطنطينية ومدحته بقصيدة طويلة مطلعها :
بدا فأراك الغصن والشادن الخشفا |
|
بديع جمال جاوز النعت والوصفا |
أغنّ يكاد الظبي يحكي التفاته |
|
وتختلس الصهباء من جسمه لطفا |
إذا طرفت منه العيون بلمحة |
|
فأيسر شيء منه ما ينهب الطرفا |
تروح به الألباب نهب هجيره |
|
وما عفرت خدا ولا انتشقت عرفا |
سقى عهده بالسفح حلة هاطل |
|
إن المزن لم يطو الزمان له سجفا |
أوان توافينا نشاوى من الصبا |
|
ولم يبق منا الوجد إلا هوى يخفى |
تحجبنا الظلماء حتى كأننا |
|
رعينا لها من كل مكرمة صنفا |
وبات يحييني بممزوجة الطلا |
|
فإني قد آليت لاذقتها صرفا |