عليه ، فارتقبته حتى أحسست إفاقته ، فقلت : يا راهب أجبني ، قال : أو سألتني عن شيء؟ قلت نعم ، قال : وما هو؟ قال : قلت لك : متى ترحل الدنيا عن القلب؟ فصاح صيحة أكبر من ذلك ، وغشي عليه أكثر من تلك ، فلمّا أن أفاق قلت له : يا راهب ، أنا منذ اليوم منتظرك ، قال : يا هذا [أوسألتني عن شيء؟ قال قلت : نعم ، قال : وما هو؟ قال : قلت : متى ترحل الدناي من القلب؟ قال : يا هذا](١) ، والله لا ترحل الدنيا أبدا من القلب ، والعين تنظر إلى أهلها ، والأذن تسمع كلامهم ، هو والله ما أقول لك ، حتى تأوي مريد الله إلى أكناف الجبال ، وبطون الغيران مع الوحش ، يرد مواردها ويرعى مراعيها ، لا يرى أن النعمة على أحد أسبغ منها عليه ، وكيف وأنّى له بالنجاة والتخلص وقد بقيت بين يديه عقبة صعود كئود؟ قال : قلت : قال إبليس متصديا على باب الله يريد أن يقطع ظهره بالغلبة حتى يقف من الله مواقف العابدين.
قال : وحدّثني محمّد بن المبارك ، حدّثني إسماعيل بن زياد قال : قدم علينا راهب ونحن بعبّادان (٢) وكان من الشام ، فنزل دير أبي كبشة (٣) ، فذكر لي من حسن كلامه ما شوّقني إلى لقائه ، فأتيته وهو داخل الدير وحوله أناس وهو يقول : إنّ لله عبادا سمت بهم هممهم نحو عظيم الذخائر ، فاحتقروا ما دون ذلك من الأخطار ، والتمسوا من فضل سيّدهم توفيقا يبلّغهم ، فإن استطعتم أيها المرتحلون عن قريب أن تأخذوا ببعض هبتهم (٤) فإنهم قوم ملأت الآخرة قلوبهم ، فلم تجد الدنيا فيها ملتذّا (٥) ، فالحزن بثهم ، والدموع راحتهم ، والإشفاق سبيلهم ، وحسن الظن بالله قربانهم ، يحزنون لطول المكث في الدنيا ، إذا فرح أهلها فهم مسجونون ، وإلى الآخرة متطلعون ، قال : فما سمعت موعظة كانت أحبّ (٦) لقلبي منها.
قال : وحدّثني محمّد بن المبارك ، حدّثني علي بن محمّد البصري ، قال : قال عبد الواحد بن زيد :
نزلنا على راهب بعبّادان فقرانا ، فأحسن قرانا ، فلمّا أن كان الليل وهدأت العيون وثب
__________________
(١) ما بين معكوفتين سقط من الأصل واستدرك عن «ز» ، والمختصر.
(٢) عبادان : بلدة تحت البصرة قرب البحر (راجع معجم البلدان).
(٣) لم أقف عليه.
(٤) كذا بالأصل و «ز» ، وفي المختصر : هيئتهم.
(٥) كذا بالأصل و «ز» ، وفي المختصر : مكيدا.
(٦) كذا بالأصل ، وفي «ز» ، والمختصر : أخف.