أحدها : أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم فكذّبوه لأول أمره ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجّوا هم في كفرهم ولم يؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصّرامة عليه ويؤيد هذا التأويل قوله (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) (١) ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليوفقهم الله إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا من قبل فكان تكذيبهم سببا لأن يمنعوا الإيمان بعد.
والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر بل كفر كلهم ومشى بعضهم على سنن بعض في الكفر أشار إلى هذا القول النقاش ، فكان الضمير في قوله (كانُوا) يختص بالآخرين والضمير في قوله (كَذَّبُوا) يختص بالقدماء منهم.
والثالث من الوجوه يحتمل أن يريد فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم لو ردّوا إلى الدنيا ومكنوا من العودة ليؤمنوا بما قد كذبوا به في حال حياتهم ودعا الرسول لهم قاله مجاهد وقرّبه بقوله تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (٢) وهذه أيضا صفة بليغة في اللجاج والثبوت على الكفر بل هي غاية في ذلك.
والرابع من الوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم الله تعالى بأنهم مكذبون به فحمل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لا سيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرّسل وذكر هذا القول المفسرون وقربوه بأن الله تعالى حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق وهو قول أبيّ بن كعب انتهى كلام ابن عطية.
والذي يظهر أنّ الضمير في (كانُوا) وفي (لِيُؤْمِنُوا) عائد على أهل القرى وأن الباء في (بِما) ليست سببية فالمعنى أنهم انتفت عنهم قابلية الإيمان وقت مجيء الرسل بالمعجزات بما كذبوا به قبل مجيء الرسل بالمعجزات بل حالهم واحد قبل ظهور المعجزات وبعد ظهورها لم تجد عنهم شيئا وفي الإتيان بلام الجحود في (لِيُؤْمِنُوا) مبالغة في نفي القابلية والوقوع وهو أبلغ من تسلّط النفي على الفعل بغير لام وما في (بِما كَذَّبُوا) موصولة والعائد منصوب محذوف أي بما كذبوه وجوّز أن تكون مصدرية ، قال الكرماني : وجاء هنا (بِما كَذَّبُوا) فحذف متعلق التكذيب لما حذف المتعلق في (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا) وقوله (وَلكِنْ كَذَّبُوا) وفي يونس أبرزه فقال (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) لما كان قد
__________________
(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٠١.
(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٢٨.