بذل النفس والمال ، وقدم على الجنات لأن رضا الله عن العبد أفضل من إسكانهم الجنة. وفي الحديث الصحيح : «إن الله تعالى يقول : يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : يا ربنا كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك ، فيقول : لكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : وما أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعدها» وأتى ثالثا بقوله : وجنات لهم فيها نعيم مقيم ، أي دائم لا ينقطع. وهذا مقابل لقوله «وهاجروا» (١) لأنهم تركوا أوطانهم التي نشأوا فيها وكانوا فيها منعمين ، فآثروا الهجرة على دار الكفر إلى مستقر الإيمان والرسالة ، فقوبلوا على ذلك بالجنات ذوات النعيم الدائم ، فجاء الترتيب في أوصافهم على حسب الواقع : الإيمان ، ثم الهجرة ، ثم الجهاد. وجاء الترتيب في المقابل على حسب الأعم ، ثم الأشرف ، ثم التكميل. قال التبريزي : ونكر الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم. برحمة أي : رحمة لا يبلغها وصف واصف.
وقرأ الأعمش ، وطلحة بن مصرف ، وحميد بن هلال : يبشرهم بفتح الياء وضم الشين خفيفة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : ورضوان بضم الراء ، وتقدم ذكر ذلك في أوائل آل عمران. وقرأ الأعمش : بضم الراء والضاد معا. قال أبو حاتم : لا يجوز هذا انتهى. وينبغي أن يجوز ، فقد قالت العرب : سلطان بضم اللام ، وأورده التصريفيون في أبنية الأسماء.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصادم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا ، وذهبت كادتنا وهلكت أموالنا ، وخربت ديارنا ، وبقينا ضائعين ، فنزلت. فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ، ثم رخص لهم بعد ذلك. فعلى هذا الخطاب للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب خوطبوا أن لا يوالوا الآباء والإخوة ، فيكونوا لهم تبعا في سكنى بلاد الكفر. وقيل : نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة ، فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم. وذكر الآباء والإخوان لأنهم أهل الرأي والمشورة ، ولم يذكر الأبناء لأنهم في الغالب تبع لآبائهم.
__________________
(١) سورة التوبة : ٩ / ٢٠.