الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة انتهى. ويكون إنما يريد الله ليعذبهم بها جملة اعتراض فيها تشديد للكلام وتقوية لانتفاء الإعجاب ، لأنّ من كان مآل إتيانه المال والولد للتعذيب لا ينبغي أن تستحسن حاله ولا يفتتن بها ، إلا أنّ تقييد الإيجاب المنهي عنه الذي يكون ناشئا عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنه لا يكون إلا في الحياة الدنيا ، فنفى ذلك ، كأنه زيادة تأكيد بخلاف التعذيب ، فإنه قد يكون في الدنيا ، كما يكون في الآخرة ، ومع أن التقديم والتأخير لخصه أصحابنا بالضرورة. وقال الحسن : الوجه في التعذيب إنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقة في سبيل الله ، فالضمير في قوله : بها ، عائد في هذا القول على الأموال فقط. وقال ابن زيد وغيره : التعذيب هو مصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب ، إذ لا يؤجرون عليها انتهى. ويتقوى هذا القول بأنّ تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم من تعذيبهم بسائر الرزايا ، وذلك لاقتران الذلة والغلبة وأمر الشريعة لهم قاله : ابن عطية ، وقد جمع الزمخشري هذا كله فقال : إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب بأن عرضهم للمغنم والسبي ، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب ، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له على رغم أنوفهم ، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم. وقيل : أموالهم التي ينفقونها فإنها لا تقبل منهم ولا أولادهم المسلمون ، مثل عبد الله بن عبد الله بن أبي وغيره ، فإنهم لا ينفعون آباءهم المنافقين حكاه القشيري. وقيل : يتمكن حب المال من قلوبهم ، والتعب في جمعه ، والوصل في حفظه ، والحسرة على تخلفته عند من لا يحمده ، ثم يقدم على ملك لا يعذره. وقدم الأموال على الأولاد لأنها كانت أعلق بقلوبهم ، ونفوسهم أميل إليها ، فإنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية ذهاب أموالهم. قال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) (١).
قال الزمخشري : (فإن قلت) : إن صح تعليق العذاب بإرادة الله تعالى ، فما بال زهوق أنفسهم وهم كافرون؟ (قلت) : المراد الاستدراج بالنعم كقوله تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) (٢) كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة انتهى. وهو بسط كلام ابن عيسى وهو الرماني ، وهما كلاهما معتزليان. قال ابن عيسى : المعنى إنما يريد الله أن يملي لهم ويستدرجهم ليعذبهم انتهى. وهي نزغة اعتزالية. والذي يظهر من حيث عطف وتزهق على ليعذب أن المعنى
__________________
(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٣١.
(٢) سورة آل عمران : ٧ / ١٧٨.