للرسول عند تقريرهم معاذيرهم حبا وشفقة فقيل : وسيرى الله عملكم هل يبقون على ذلك أو لا يبقون؟ والغيب والشهادة هما جامعان لأعمال العبد لا يخلو منهما. وفي ذلك دلالة على أنه مطلع على ضمائرهم كاطلاعه على ظواهرهم ، لا تفاوت عنده في ذلك.
(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) : لما ذكر أنهم يصدر منهم الاعتذار أخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف ، وأنّ سبب الحلف هو طلبتهم أن يعرضوا عنهم فلا يلوموهم ولا يوبخوهم ، فاعرضوا عنهم أي : فأجيبوهم إلى طلبتهم. وعلل الإعراض عنهم بأنهم رجس ، أي مستقذرون بما انطووا عليه من النفاق ، فتجب مباعدتهم واجتنابهم كما قال : (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (١) فمن كان رجسا لا تنفع فيه المعاتبة ، ولا يمكن تطهير الرجس. ويحتمل أن يكون سبب الحلف مخافتهم أن يعرضوا عنهم فلا يقبلوا عليهم ولا يوادوهم ، فأمر تعالى بالإعراض عنهم وعدم توليهم ، وبيّن العلة في ذلك برجسيتهم ، وبأنّ مآل أمرهم إلى النار. قال ابن عباس : فاعرضوا عنهم لا تكلموهم. وفي الخبر أنه عليهالسلام لما قدم من تبوك قال : «لا تجالسوهم ولا تكلموهم».
قيل : إنّ هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك ، وكان قد اعتذر بعض المنافقين واستأذنوه في القعود قبل مسيره ، فأذن فخرجوا وقال أحدهم : ما هو إلا شحمة لأول آكل ، فلما خرج الرسول نزل فيهم القرآن ، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم : نزل فيكم قرآن فقالوا له : وما ذلك؟ قال : لا أحفظ ، إلا إنّي سمعت وصفكم فيه بالرجس ، فقال لهم مخشي : لوددت أن أجلد مائة ولا أكون معكم ، فخرج حتى لحق بالرسول صلىاللهعليهوسلم فقال له : «ما جاء بك»؟ فقال له : وجه رسول الله صلىاللهعليهوسلم تسفعه الريح ، وأنا في الكن. فروي أنه ممن تاب. قال ابن عطية : فاعرضوا عنهم أمر بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق ، وهذا مع إجمال لا مع تعيين مصرح من الله ولا من رسوله ، بل كان لكل واحد منهم ميدان المقالة مبسوطا. وقوله : رجس أي نتن وقذر. وناهيك بهذا الوصف محطة دنيوية ، ثم عطف لمحطة الآخرة. ومن حديث كعب بن مالك : أنهم جاءوا يعتذرون ويحلفون لما قدم المدينة ، وكانوا بضعة وثمانين ، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله.
__________________
(١) سورة المائدة : ٥ / ٩٠.