مطالعة حديث الثلاثة الذين خلفوا ، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم وهو في السير ، فلذلك اختصرت سوقه. وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأنّ الشرع يطالبهم من الحد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه ، إذ هو أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين ، إذ كان كعب من أهل العقبة ، وصاحباه من أهل بدر ، وفي هذا ما يقتضي أنّ الرجل العالم والمقتدي به أقل عذرا في السقوط من سواه. وكتب الأوزاعي إلى المنصور أبي جعفر في آخر رسالة : واعلم أنّ قرابتك من رسول الله صلىاللهعليهوسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عظما ، ولا طاعته إلا وجوبا ، ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكارا والسلام. ولقد أحسن القاضي التنوخي في قوله :
والعيب يعلق بالكبير كبير
انتهى.
وروي أن أناسا من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومنهم من بدا له فيلحق بهم كأبي خيثمة ، ومنهم من بقي لم يلحق بهم منهم الثلاثة. وسئل أبو بكر الوراق عن التوبة النصوح فقال : إن تضيق على التائب الأرض بما رحبت ، وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) : هو خطاب للمؤمنين ، أمروا بكونهم مع أهل الصدق بعد ذكر قصة الثلاثة الذين نفعهم صدقهم وأزاحهم عن ربقة النفاق. واعترضت هذه الحملة تنبيها على رتبة الصدق ، وكفى بها أنها ثانية لرتبة النبوة في قوله : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) (١) قال ابن جريج وغيره : الصدق هنا صدق الحديث. وقال الضحاك ونافع : ما معناه اللفظ أعم من صدق الحديث ، وهو بمعنى الصحة في الدين ، والتمكن في الخير ، كما تقول العرب : رجل صدق. وقالت هذه الفرقة : كونوا مع محمد وأبي بكر وعمر وخيار المهاجرين الذين صدقوا الله في الإسلام. وقيل : هم الثلاثة أي : كونوا مثل هؤلاء في صدقهم وثباتهم. وقال الزمخشري : هم الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم الله ورسوله من قوله : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) (٢) وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولا وعملا انتهى. وقيل : الخطاب بالذين آمنوا لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك. وعن ابن عباس : الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب أي : كونوا مع المهاجرين والأنصار ، ومع تقتضي الصحبة في الحال والمشاركة في
__________________
(١) سورة النساء : ٤ / ٦٩.
(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٢٣.