قرأت بخط أبي الفرج غيث بن علي : حضرت الفقيه نصرا يوما وهو يقرأ جزءا ، فجاء في أثناء القراءة قوم ، وجاء بعدهم صبي صغير ، فلما فرغ الجزء سألوه أن يعيد الفائت فأعاد لهم ، فلمّا اتصل سماعهم أراد أن يمسك ثم قال : لا حتى أعيد ، فائت هذا الصغير لأنني أخاف أن أسأل عنه ، لم كان هؤلاء أحق بالإعادة منه؟ وأعاد له قائمة.
قال : وسمعت الفقيه يقول : درست على الفقيه سليم من سنة سبع وثلاثين إلى سنة أربعين ما فاتني منها درس ، ولا إعادة ، ولا وجعت إلّا يوما واحدا وعوفيت ، وسألته في كم التعليقة التي صنفها جزء؟ فقال : في نحو ثلاثمائة جزء ، وما كتبت منها حرفا إلّا وأنا على وضوء (١) ، أو كما قال : كان الفقيه أبو الفتح ـ رحمة الله عليه ـ على طريقة واحدة في الزهد في الدنيا ، والتنزّه عن الدنيا ، والجري على منهاج السلف من التقشّف وتجنّب السلاطين ، ورفض الطمع ، والاجتزاء باليسير مما يصل إليه من غلّة أرض كانت له بنابلس ، يأتيه منها ما يقتاته ولا يقبل من أحد شيئا.
سمعت من يحكي أن تاج الدولة تتش بن ألب (٢) رسلان زاره يوما ، فلم يقم له ، وسأله عن أحلّ الأموال التي يتصرف فيها السلطان؟ فقال الفقيه : أحلّها أموال الجزية ، فخرج من عنده وأرسل إليه بمبلغ من المال وقال : هذا من مال الجزية فعرضه على الأصحاب فلم يقبله ، وقال : لا حاجة بنا إليه ، فلمّا ذهب الرسول لامه الفقيه أبو الفتح نصر الله بن محمّد وقال له : قد علمت حاجتنا إليه ، فلو كنت قبلته وفرّقته فينا ، فقال له : لا تجزع من فوته ، فسوف يأتيك من الدنيا ما يكفيك فيما بعد ، فكان كما تفرّس فيه رحمه [الله](٣)(٤).
وسمعت بعض من صحبه يقول : لو كان الفقيه أبو الفتح في السلف ، لم تقصّر درجته عن واحد منهم ، لكنهم فاتوه بالسبق ، وكانت أوقاته كلها مستغرقة في عمل الخير ، إمّا في نشر علم ، وإمّا في إصلاح عمل.
وحكي عن بعض أهل العلم أنه قال : صحبت إمام الحرمين أبا المعالي الجويني (٥)
__________________
(١) سير أعلام النبلاء ١٩ / ١٣٩.
(٢) تحرفت بالأصل وم إلى : ألد.
(٣) زيادة منا للإيضاح ، سقطت لفظ الجلالة من الأصل وم و «ز».
(٤) تبيين كذب المفتري ص ٢٨٦ وسير الأعلام ١٩ / ١٤٠.
(٥) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف ، إمام الحرمين ، أبو المعالي ، ترجمته في سير أعلام النبلاء ١٨ / ٤٦٨.