(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)
وَلَقَدْ كٰانَ فِى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ كٰافٍ لَكَ فِى الْأُسْوَةِ ، وَدَلِيلٌ لَكَ عَلىٰ ذَمِّ الدُّنْيٰا وَعَيْبِهٰا ، وَكَثْرَةِ مَخٰازِيهٰا وَمَسٰاوِيهٰا ، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرٰافُهٰا ، وَوُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنٰافُهٰا ، وَفُطِمَ عَنْ رِضٰاعِهٰا ، وَزُوِىَ عَنْ زَخٰارِفِهٰا. فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسّىٰ ، وَعَزٰاءً لِمَنْ تَعَزّىٰ. وَأَحَبُّ الْعِبٰادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّى بِنَبِيِّهِ ، وَالْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ. قَضَمَ الدُّنْيٰا قَضْماً ، وَلَمْ يُعِرْهٰا طَرْفاً ، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيٰا كَشْحًا ، وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيٰا بَطْنًا. عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيٰا فَأَبىٰ أَنْ يَقْبَلَهٰا ، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ سُبْحٰانَهُ أَبْغَضَ شَيْئًا فَأَبْغَضَهُ ، وَحَقَّرَ شَيْئًا فَحَقَّرَهُ ، وَصَغَّرَ شَيْئًا فَصَغَّرَهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِينٰا إِلّٰا حُبُّنٰا مٰا أَبْغَضَ اللهُ وَتَعْظِيمُنٰا مٰا صَغَّرَ اللهُ ، لَكَفىٰ بِهِ شِقٰاقًا لِلّٰهِ ، وَمُحٰادَّةً عَنْ أَمْرِ اللهِ. وَلَقَدْ كٰانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ ، وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ ، وَيَرْكَبُ الْحِمٰارَ الْعٰارِىَ ، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ. وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلىٰ بٰابِِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصٰاوِيرُ ، فَيَقُولُ يٰا فُلٰانَةُ ـ لِإِحْدىٰ أَزْوٰاجِهِ ـ غَيِّبِيِه عَنِّي ، فِإِنِّي إِذٰا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيٰا وَزَخٰارِفَهٰا ، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيٰا بِقَلْبِهِ ، وَأَمٰاتَ ذِكْرَهٰا مِنْ نَفْسِهِ ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهٰا عَنْ عَيْنِهِ. لِكَيْلٰا يَتَّخِذَ مِنْهٰا رِيٰاشًا ، وَلٰا يَعْتَقِدَهٰا قَرٰارًا ، وَلٰا يَرْجُوَ فِيهٰا مُقٰامًا ، فَأَخْرَجَهٰا مِنَ النَّفْسِ ، وَأَشْخَصَهٰا عَنِ الْقَلْبِ ، وَغَيَّبَهٰا عَنِ الْبَصَرِ. وَكَذٰلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئًا أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ ، وَأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ. وَلَقَدْ كٰانَ فِى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ مٰا يَدُلُّكَ عَلىٰ مَسٰاوِى الدُّنْيٰا وَ
__________________
١ ـ نهج البلاغة : ص ٢٢٦ ـ ٢٢٩ ، الخطبة ١٦٠.