قوله : (أَيْنَ ما كُنْتُ) : هذه شرطية ، وجوابها : إمّا محذوف مدلول عليه بما تقدّم ، أي : أينما كنت ، جعلني مباركا ، وإمّا متقدّم عند من يرى ذلك ، ولا جائز أن تكون استفهامية ؛ لأنّه يلزم أن يعمل فيها ما قبلها ، وأسماء الاستفهام لها صدر الكلام ، فيتعيّن أن تكون شرطية ؛ لأنها منحصرة في هذين المعنيين.
ثم قال : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) ، أي : أمرني بهما.
فإن قيل : لم يكن لعيسى مال ، فكيف يؤمر بالزّكاة؟ قيل : معناه : بالزّكاة ، لو كان له مال.
فإن قيل : كيف يؤمر بالصّلاة والزّكاة ، مع أنّه كان طفلا صغيرا ، والقلم مرفوع عن الصّغير ؛ لقوله ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ : «رفع القلم عن ثلاث» (١) الحديث.
فالجواب من وجهين (٢) :
الأول : أنّ قوله : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) لا يدلّ على أنّه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال ، بل بعد البلوغ ، فيكون المعنى على أنّه تعالى أوصاني بأدائهما في وقت وجوبهما عليّ ، وهو وقت البلوغ.
الثاني : لعلّ الله تعالى ، لمّا انفصل عيسى عن أمّه ـ صلوات الله عليه ـ صيّره بالغا ، عاقلا ، تامّ الخلقة ؛ ويدلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران : ٥٩] فكما أنّه تعالى خلق آدم ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ تامّا كاملا دفعة ، فكذا القول في عيسى صلوات الله عليه وهذا أقرب إلى ظاهر اللّفظ ؛ لقوله : (ما دُمْتُ حَيًّا) فإنّه يفيد أنّ هذا التّكليف متوجّه عليه في جميع زمان حياته ، ولكن لقائل أن يقول : لو كان الأمر كذلك ، لكان القوم حين رأوه ، فقد رأوه شخصا كامل الأعضاء ، تامّ الخلقة ، وصدور الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكون عجبا ؛ فكان ينبغي ألّا يعجبوا.
والجواب (٣) أن يقال : إنّه تعالى جعله مع صغر جثّته قويّ التركيب ، كامل العقل ، بحيث كان يمكنه أداء الصّلاة والزّكاة ، والآية دالّة على أنّ تكليفه لم يتغيّر حين كان في الأرض ، وحين رفع إلى السّماء ، وحين ينزل مرّة أخرى ؛ لقوله (ما دُمْتُ حَيًّا).
قوله تعالى : (ما دُمْتُ حَيًّا) «ما» مصدرية ظرفية ، وتقدم «ما» على «دام» شرط في إعمالها ، والتقدير : مدّة دوامي حيّا ، ونقل ابن عطيّة (٤) عن عاصم ، وجماعة : أنهم قرءوا «دمت» بضم الدّال ، وعن ابن كثير ، وأبي عمرو ، وأهل المدينة : «دمت» بكسرها ، وهذا لم نره لغيره ، وليس هو موجودا في كتب القراءات المتواترة والشاذّة الموجودة الآن ، فيجوز أن يكون اطّلع عليه في مصنف غريب ، ولا شكّ أنّ في «دام» لغتين ، يقال : دمت
__________________
(١) تقدم.
(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٨٣ ـ ١٨٤.
(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٨٤.
(٤) ينظر : البحر ٦ / ١٧٧ ، الدر المصون ٤ / ٥٠٤.