ولد الملك لتعظيم أبيه ، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة في نفى الولد والإطناب فيه ، وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها ، فكان المعلق بها محالا مثلها ، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة ، وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها. ونظيره أن يقول العدلى للمجبر (١). إن كان الله تعالى خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا ، فأنا أول من يقول : هو شيطان وليس بإله ، فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفى أن يكون الله تعالى خالقا للكفر ، وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ، ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا ، مع الدلالة على سماجة المذهب وضلالة الذاهب إليه ، والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه ، وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه. ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير رحمه الله للحجاج حين قال له ـ : أما والله (٢) لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى ـ : لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك. وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه ، فقيل : إن كان للرحمن ولد في زعمكم ، فأنا أول العابدين الموحدين لله ، المكذبين قولكم بإضافة الولد إليه. وقيل : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد : إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد. وقرأ بعضهم : العبدين. وقيل : هي إن النافية ، أى : ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد ، وروى أنّ النضر بن عبد الدار بن قصى قال : إن الملائكة بنات الله فنزلت ، فقال النضر : ألا ترون أنه قد صدقنى. فقال له الوليد بن المغيرة : ما صدقك ولكن قال : ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة : أن لا ولد له. وقرئ : ولد ، بضم الواو. ثم نزه ذاته موصوفة بربوبية السماوات والأرض والعرش عن اتخاذ الولد ، ليدل على أنه من صفة الأجسام.
__________________
ـ ثبت قطعا عقلا وشرعا أنه تعالى خالق لذلك في القلوب كما خلق الايمان ، وفاء بمقتضى دليل العقل الدال على أن لا خالق إلا الله ، وتصديقا بمضمون قوله تعالى (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) وقوله (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وإذا ثبتت هذه المقدمة عقلا ونقلا : لزمه فرك أذنه وغل عنقه ، إذ يلحد في الله إلحادا لم يسقه إليه أحد من عباده الكفرة ، ولا تجرأ عليه مارد من مردة الفجرة. ومن خالف في كفر القدرية فقد وافق على كفر من تجرأ فقال هذه المقالة واقتحم هذه الضلالة بلا محالة ، فانه قد صرح بكلمة الكفر على أقبح وجوهها وأشنع أنحائها : والله المسئول أن يعصمنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(١) قوله «ونظيره أن يقول العدلى للمجبر» يريد : أحد المعتزلة لأحد أهل السنة ، وفي هذا التنظير من سوء الأدب في حقه تعالى ما لا يخفى. (ع)
(٢) قوله «قال له : أما والله» في الصحاح : «أما» مخفف تحقيق للكلام الذي يتلوه اه. ولعل حذف الألف لغة ، فليحرر. (ع)