(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٠)
____________________________________
وأنهم أحقاء بأن يخافوا بأس الله تعالى بقوله (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) أى وكثير من أهل قرية كانت حالهم كحال هؤلاء فى الأمن وخفض العيش والدعة حتى أشروا فدمرنا عليهم وخربنا ديارهم (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ) خاوية بما ظلموا (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد تدميرهم (إِلَّا قَلِيلاً) أى إلا زمانا* قليلا إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم أو لم يبق من يسكنها إلا قليلا من شؤم معاصيهم (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم فى ديارهم وسائر ذات أيديهم وانتصاب معيشتها بنزع الخافض أو بجعلها ظرفا بنفسها كقولك زيد ظنى مقيم أو بإضمار زمان مضاف إليه أو بجعله مفعولا لبطرت بتضمين معنى كفرت (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) بيان للعناية الربانية إثر بيان إهلاك القرى المذكورة أى وما صح وما استقام بل استحال فى سنته المبنية على الحكم البالغة أو ما كان فى حكمه الماضى وقضائه السابق أن يهلك القرى قبل الإنذار بل كانت عادته أن لا يهلكها (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) أى فى* أصلها وقصبتها التى هى أعمالها وتوابعها لكون أهلها أفطن وأنبل (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) الناطقة بالحق ويدعوهم إليه بالترغيب والترهيب وذلك لإلزام الحجة وقطع المعذرة بأن يقولوا (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) والالتفات إلى نون العظمة لتربية المهابة وإدخال الروعة وقوله تعالى (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى) عطف على (ما كانَ رَبُّكَ) وقوله تعالى (إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أى وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد ما بعثنا فى أمها رسولا يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إليه فى حال من الأحوال إلا حال كونهم ظالمين بتكذيب رسولنا والكفر بآياتنا فالبعث غاية لعدم صحة الإهلاك بموجب السنة الإلهية لا لعدم وقوعه حتى يلزم تحقق الإهلاك عقيب البعث وقد مر تحقيقه فى سورة بنى إسرائيل (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) من أمور الدنيا (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) أى فهو شىء شأنه أن يتمتع ويتزين به أياما قلائل (وَما عِنْدَ اللهِ) وهو الثواب (خَيْرٌ) فى نفسه من ذلك لأنه لذة* خالصة عن شوائب الألم وبهجة كاملة عارية عن سمة الهم (وَأَبْقى) لأنه أبدى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ألا تتفكرون فلا تعقلون هذا الأمر الواضح فتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير وقرىء بالياء على الالتفات المبنى على اقتضاء سوء صنيعهم الإعراض عن مخاطبتهم.