(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٩)
____________________________________
(الرَّحِيمُ) على عباده وهما خبران آخران وفيه إيماء إلى أنه تعالى متفضل فى جميع ما ذكر فاعل بالإحسان (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) خبر آخر أو نصب على المدح أى حسن كل مخلوق خلقه إذ ما من مخلوق خلقه إلا وهو مرتب على ما يقتضيه الحكمة وأوجبته المصلحة فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن كما قال تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) وقيل علم كيف يخلقه من قوله قيمة المرء ما يحسن أى يحسن معرفته أى يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإيقان وقرىء خلقه على أنه بدل اشتمال من كل شىء والضمير للمبدل منه أى حسن خلق كل شىء وقيل بدل الكل على أن الضمير لله تعالى والخلق بمعنى المخلوق أى حسن كل مخلوقاته وقيل هو مفعول ثان لأحسن على تضمينه معنى أعطى أى أعطى كل شىء خلقه اللائق به بطريق الإحسان والتفضل وقيل هو مفعوله الأول وكل شىء مفعوله الثانى والخلق بمعنى المخلوق وضميره لله سبحانه على تضمين الإحسان معنى الإلهام والتعريف والمعنى ألهم خلقه كل شىء مما يحتاجون إليه وقال أبو البقاء عرف مخلوقاته كل شىء يحتاجون إليه فيؤول إلى معنى قوله تعالى (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) من بين جميع المخلوقات (مِنْ طِينٍ) على وجه بديع تحار* العقول فى فهمه حيث برأ آدم عليهالسلام على فطرة عجيبة منطوية على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لخروج كل فرد منها من القوة إلى الفعل بحسب استعداداتها المتفاوتة قربا وبعدا كما ينبىء عنه قوله تعالى (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) الخ أى ذريته سميت بذلك لأنها تنسل وتنفصل منه (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) هو المنى الممتهن (ثُمَّ سَوَّاهُ) أى عدله بتكميل أعضائه فى الرحم وتصويرها على ما ينبغى (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أضافه إليه تعالى تشريفا له وإيذانا بأنه خلق عجيب وصنع بديع وأن له شأنا له مناسبة إلى حضرة الربوبية وأن أقصى ما تنتهى إليه العقول البشرية من معرفته هذا القدر الذى يعبر عنه تارة بالإضافة إليه تعالى وأخرى بالنسبة إلى أمره تعالى كما فى قوله تعالى (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) * الجعل إبداعى واللام متعلقة به والتقديم على المفعول الصريح لما مر مرات من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم أى خلق لمنفعتكم تلك المشاعر لتعرفوا أنها مع كونها فى أنفسها نعما جليلة لا يقادر قدرها وسائل إلى التمتع بسائر النعم الدينية والدنيوية الفائضة عليكم وتشكروها بأن تصرفوا كلا منها إلى ما خلق هو له فتدركوا بسمعكم الآيات التنزيلية الناطقة بالتوحيد والبعث وبأبصاركم الآيات التكوينية الشاهدة بهما وتستدلوا بأفئدتكم على حقيتهما وقوله تعالى (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) بيان لكفرهم بتلك النعم بطريق الاعتراض التذييلى على أن القلة بمعنى*