وأيضا فلو حمل ما دون ذلك على الصغائر أو الكبائر مع التوبة لكان لا وجه لتعلقه بالمشيئة ؛ لأنه إنما يعلق على المشيئة في وضع اللسان ما لم يكن مستحقا ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال : فلان يقضي الدين لمن يشاء من المستحقين ، ويحسن أن يقال : الملك يخلع على من يشاء.
وأيضا فإنه تعالى أضاف الغفران إلى نفسه ، والذي يتعلق به من المغفرة ليس إلا مغفرة أصحاب الكبائر دون التائب وأصحاب الصغائر ، فإن التائب لتوبته وصاحب الصغيرة باجتنابه الكبائر (١).
وأيضا فما دون الشيء إنما يستعمل فيما قاربه ، فيكون المراد الكبائر ، كما أن القائل إذا قال : الألف فما دونه لم يحمل ما دونه على العشرة ، وإنما يحمل على تسع مائة ونحوها.
وقد أجيب عن هذه الآية بأجوبة كثيرة منها : ما ذكره جار الله الزمخشري ـ رحمهالله تعالى ـ فقال : الفعل المنفي وهو غفران الشرك والمثبت وهو غفران ما دونه موجهان إلى قوله : (لِمَنْ يَشاءُ) فكأنه قيل : إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك على أن المراد بالأول من لم يتب ، وبالثاني من تاب ، ونظيره قولك : إن الأمير لا يبذل الدينار ، ويبذل القنطار لمن يشاء ، يريد لا يبذل الدينار لمن لا يستحقه ويبذل القنطار لمن يستحقه ، وحكي في سبب نزولها أنه جاء إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شيخ من العرب فقال : إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته ، وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له ، وما توهمت طرفة عين أني لم أعجز الله هربا ، وإني لنادم مستغفر تائب ، فما ترى حالي عند الله؟ فنزلت. قال : وهذا الحديث (٢) ينصر من فسّر من يشاء بالتائب من ذنبه.
__________________
(١) ترك خبر إنّ ، وصواب العبارة ما في المعراج بعد قوله : باجتنابه الكبائر ، قد أزالا ما استحقاه من العقوبة.
(٢) رواه القرطبي في تفسيره ، والشوكاني في فتح القدير قال : وهو ما رواه الثعلبي والقرطبي في تفسيرهما عن الضحاك أن شيخا .. إلخ.