وفيه مخالفة الفلاسفة (١) القائلين بالعقول والأنفس ، والباطنية (٢) القائلين بالسابق والتالي ، وأهل الطبع وأصحاب النجوم ، لنا : أنها إما أن تكون أحدثت نفسها أو غيرها ، والأول باطل ؛ لأنها حالة العدم يستحيل أن تقدر فضلا عن أن تؤثر في نفسها ، وحالة الوجود تستغني عن المؤثر ، وإن أحدثها غيرها فهو إما مختار كما نقول ، أو موجب ، الثاني باطل ؛ لأن ذلك الموجب إن كان محدثا عاد الكلام في محدثه حتى ينتهي إلى المختار ، وإن كان قديما لزم أن تحصل الأجسام دفعة واحدة في جهة واحدة ، بل في كل الجهات ؛ لأنه لا يخصها بوقت دون وقت ، وجهة دون جهة إلا المختار ، ويلزم أن تكون لصفة واحدة ؛ لأنه ليس بعضها بأن يوجب كون الماء ماء والطين طينا أولى من العكس ، ولا بأن يوجب كون الماء رطبا والطين يابسا أولى من العكس.
فإن قال : إنما لم توجب في الأزل لحصول مانع أو فقد شرط.
قيل له : ذلك المانع إن كان محدثا عاد الكلام في كون محدثه مختارا أو موجبا ، وإن كان قديما استحال عليه الزوال ، فلا يوجد العالم أبدا لاستمرار المانع.
ويقال للفلاسفة : أي شيء العقول والنفوس وما الدليل على ثبوتها؟ وإذا كانت قديمة فلم كان البعض بأن يؤثر في البعض أولى من العكس؟ ولم كان البعض بأن يكون عقلا والآخر نفسا أولى من العكس؟ وما الدليل على أن الأفلاك حية وأن لها نفوسا؟
وبقريب من هذا الكلام يبطل قول الباطنية ؛ لأن مذهبهم يضاهي مذهب الفلاسفة ؛ لإثباتهم علة قديمة صدر عنها السابق وعن السابق تالي ، وعن التالي نفس كلية ، كما أن
__________________
(١) الفلسفة : اسم في اللغة اليونانية لمحبة الحكمة ، فالفيلسوف هو محب الحكمة ، وقيل : مركبة من (فيلا) وهو اسم للمحب و (سوف) اسم للحكمة. ا. ه. معراج.
(٢) الذي حصل المتكلمون من مقالاتهم القول بأصلين روحانيين أحدهما : السابق ، والآخر : التالي ، وأن السابق ظهر منه التالي ، ثم اختلفوا فقائل : بأنهما مدبران للعالم السفلي معا ، وقائل : بأن المدبر هو التالي فقط ، والسابق فاعل للأجسام النافعة ، والتالي فاعل للأجسام الضارة ، وهذا بعينه مذهب المجوس ، واختلف في تفسير السابق والتالي فقيل : ملكان ، وقيل : اللوح والقلم ، وقيل : العقل والنفس ، قيل : ولا يكاد يعرف لهم مذهب لتسترهم ، ا. ه. معراج.