المتقن على سبيل الإتقان مرة واحدة. فالعاجز عن نظم الشعر قد ينطق على سبيل الإتقان بمصراع من الشعر والجاهل بالخط ، قد يكتب حرفا واحدا على الإحكام والإتقان ؛ بالاتفاق والندرة (وإذا ثبت هذا فنقول : قد ثبت في العلوم العقلية : أن حكم الشيء حكم مثله (١) فلما ثبت أن العمل القليل قد يوجد من الجاهل ، وجب أن يكون حكم أمثاله وأشباهه كذلك. وهذا يدل على أن صدور الفعل المحكم المتقن من الجاهل : جائز.
والثاني : وهو أنا نشاهد أن النحل يبني البيوت المسدسة من غير مسطرة ولا فرجار، على أحسن الوجوه ، بل العقلاء الحصفاء الكاملون ، لو أرادوا بناء البيوت المسدسة من الشمع مثل ما يبنيه النحل ، يعجزون عنه والعنكبوت أيضا. إذا أرادت إصلاح بيتها ، فإنها تأتي بأعمال عجيبة في ذلك البناء. والنملة إذا خبأت في جحرها حبات الحنطة فإنها تفلق كل حبة إلى نصفين ، لأجل أنه إذا أصابتها الرطوبة ، فإنها لا تنبت. وعجائب أفعال الحيوانات مذكورة في الكتب. فهذه أفعال محكمة متقنة. فإن دل الفعل المحكم المتقن على علم الفاعل ، وجب القول بأنها أكثر علما من الإنسان (لأن ما) (٢) في هذه الأنواع من الأفعال من وجوه الإحكام والإتقان ، أكثر مما في أفعال الناس. وذلك بعيد جدا.
الوجه الثالث : وهو أنا نرى أن الإنسان إذا أراد أن يتعلم صنعة الكتابة أو ضرب الطنبور أو صنعة أخرى ، فإنه في أول الأمر يحتاج إلى أن يستحضر في ذهنه صورة حرف حرف ، وصورة نقرة نقرة ، ومتى كان الإنسان باقيا في هذه الدرجة ، فإنه يكون مقصرا في تلك الصناعة ، ثم إذا واظب على تلك الحرفة على تلك الحرفة مدة مديدة ، وتمرن فيها حصلت له حالة عجيبة تسمى بالملكة في اصطلاح الحكماء ، بأن يصير بحيث يكتب على أحسن الوجوه من غير أن يحتاج إلى استحضار حرف حرف في الخيال ، بل ربما كان مشغول القلب بمهم آخر ، وهو يكتب على أحسن الوجوه. فههنا الفعل المحكم المتقن الواقع على
__________________
(١) من (م).
(٢) من (م).