إذا عرفت هذا فنقول : الشيء إما أن يكون خالص المصلحة (١) في اعتقاده ، أو خالص المفسدة في اعتقاده ، أو يكون مشتملا على المصلحة والمفسدة في اعتقاده ، أو يكون خاليا عنهما في اعتقاده. فهذه أقسام أربعة لا مزيد عليها. أما القسم الأول : فإن عند حصول هذا الاعتقاد يجب الفعل ، ويكون الإنسان كالملجإ (٢) إليه.
وأما القسم الثاني : فعند حصول هذا الاعتقاد يجب الترك ويكون الإنسان كالملجإ إلى الترك. مثال الأول الصائم في الصيف القائظ ، إذا اشتد عطشه ، وعظمت حاجته إلى شرب الماء البارد ، وكان ذلك الماء البارد حاضرا ، والشارع يقول له : اشرب. والطبيب يقول له : اشرب. وعلم أن ذلك الشرب خالص النفع خالي عن جميع جهات الضرر ، فههنا يجب الشرب ، ويكون الإنسان كالملجإ إلى ذلك الشرب. ومثال الثاني : الإنسان إذا علم أن له في دخول النار ضررا عظيما ، والشارع يقول له : لا تدخل النار. والعقلاء أطبقوا على منعه من الدخول في النار ، وعلم ذلك الإنسان أنه ليس له في دخول النار منفعة في الدنيا ولا في الآخرة ، وأن له في دخولها أعظم المضار. فههنا يمتنع منه أن يدخل في النار ، ويكون كالملجإ إلى أن لا يدخل في النار. نعم الإنسان قد يلتزم قتل نفسه ، وقد يرمي نفسه من شاهق جبل إلا أنه إنما يفعل ذلك إذا صار مضطرا إلى التزام ألم أو غمّ. وأعتقد أن ذلك الألم وذلك الغم أعظم من الألم الحاصل بسبب القتل. وأعتقد أنه لا يمكنه الخلاص من ذلك الألم الأعظم إلا بالتزام ألم القتل ، فههنا قد يقدم على قتل نفسه. وإنما فعل ذلك لاعتقاده أن التزام هذا الألم يوجب الخلاص من ألم آخر أعظم منه ، فهو إنما التزم تحمل هذا الألم العظيم، لكونه دافعا للقدر الزائد عليه من الضرر ، ودفع الضرر بقدر الإمكان مطلوب في العقل.
وأما القسم الثالث : وهو أن يكون الفعل مشتملا على المصلحة والمفسدة
__________________
(١) المنفعة (ت).
(٢) كالمحال (م).