فهذه جملة الدلائل في بيان أن حكم العقل بالتحسين والتقبيح في أحكام الله وفي أفعاله : حكم باطل ، غير ملتفت إليه.
واعلم أن جماعة عظيمة من أصحاب أبي الحسن الأشعري ـ رحمهالله ـ احتجوا على إبطال (١) القول بتحسين العقل وتقبيحه. بأن قالوا : لو قبح القتل لذاته ، لوجب أن يقبح (كل قتل وكان يجب أن يقبح) (٢) القتل على سبيل القصاص ، ولو حسنت المنفعة لذاتها ، لحسنت كل منفعة ولذة ، فكان يجب حسن الزنا واللواطة ، ولما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن القول بأن الحسن حسن لذاته ، وأن القبيح قبيح لذاته قول باطل.
وقالت المعتزلة : هذا الكلام غير وارد علينا ، لأنا لا نقول : إن الحسن إنما كان حسنا لذاته ، وأن القبيح إنما كان قبيحا لذاته. وإنما نقول : إن الحسن يحسن لوجوه عائدة إليه ، وإن القبيح إنما يقبح لوجوه عائدة إليه. وعند هذا قالت الأشعرية : إن التعليل بالوجوه تعليل بأمر غير مفهوم ولا معقول.
ونحن نذكر تفسير هذه الوجوه بحيث يصير المراد منه مفهوما فنقول :
لا شك أن الإنسان قد يلتذ بتناول الخلّ ، إلا أن المقتضى لحصول تلك اللذة ليس هو تناول الخل فقط ، بل الموجب له مجموع أمور ، مثل أن يكون قد تقدم أكل الطعام الطيب الدسم ، وأن تكون المعدة قوية ، فعند تقدم ذلك الأكل يكون تناول الخل لذيذا لمثل هذه المعدة. فعلى هذا لا نقول : إن الموجب لتلك اللذة ذات الخل ، بل الموجب مجموع هذه الأحوال والشرائط.
وأيضا : الإنسان يرغب في تناول الدواء المخصوص ، وليس المقتضى لحصول تلك الرغبة هو ذات ذلك الدواء ، وإنما المقتضى له مجموع أمور منها : حصول أخلاط مخصوصة في البدن. ومنها : أن لا توجد سائر الأدوية ومنها : ظهور آثار المرض في البدن فتصير مجموع هذه الأحوال موجبا لحصول الرغبة في
__________________
(١) فساد (س).
(٢) من (م).