فكذلك يحكم بقبيحهما من الله تعالى ، بل نقول : إن قبحهما من الله تعالى آكد في العقول لأن الواحد منا قد يظلم ويكذب ، إما لجهله أو لحاجته. والجهل والحاجة عذر في ذلك الفعل من بعض الوجوه. أما الله تعالى فإنه منزه عن الجهل والعجز والحاجة ، فكان حكم العقل بقبح الكذب والظلم منه آكد وأقوى من حكمه بقبحه لهما من العبد. فيثبت أن هذا الحكم كما هو ثابت في الشاهد ثابت في الغائب. فهذا جملة الكلام في تقرير كلام القائلين بأن (هذه الأحكام معلومة بالضرورة.
وأما تقرير كلام القائلين (١)) بأنا نثبت هذه الأحكام بالدليل. فهو من وجوه :
الحجة الأولى : قالوا : رأينا الأفعال منقسمة إلى حسنة وقبيحة ، فلولا أن من الأمور ما لأجله صار البعض حسنا والبعض قبيحا. وإلا لكان حصول هذا التفاوت ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح ، وأنه يلزم منه نفي الصانع ، وليس لقائل أن يقول : هذا التفاوت إنما حصل لأن الشرع خص البعض بالحسن ، والباقي بالقبح ، لأنا نقول : الذي خصه الشرع بالحسن ، والذي خصه بالقبح. إما أن يقال : إنهما استويا في جميع الجهات والاعتبارات العائدة إليهما أو إلى أحدهما ، أو ليس الأمر كذلك؟ والأول باطل ، وإلا لكان تخصيص الشرع بعضها بالحسن وبعضها بالقبح ترجيح لأحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح وأنه محال. والثاني : يفيد القول بأن كل واحد منهما قد اختص بوجه لأجله استحق أن يخصه الشرع بالحسن أو بالقبح ، ولا معنى لقولنا : إن الحسن إنما يحسن لوجوه عائدة إليه ، وأن القبح إنما يقبح لوجوه عائدة إليه ، إلا هذا المعنى.
الحجة الثانية : قالوا : لو لم يثبت الحسن والقبح إلا بالشرع لوجب أن لا يقبح من الله تعالى شيء. ولو كان الأمر كذلك فحينئذ لا يبقى الاعتماد على وعد الله ، ولا على وعيده ، فإنه لعلّه يعد بعض العباد بالثواب ولا يفعل ،
__________________
(١) من (م ، س).