تلتفت في الليلة الماضية إلى السباع التي أحاطت بك ، وفي هذه الليلة أظهرت التوجع من هذه البعوضة.
فقال : أما الليلة الماضية فقد جاءني ضيف كريم ، وسلطان عظيم [من عالم الغيب (١)] فلأجل قوته ما كنت أبالي بتلك السباع. وأما في هذه الليلة فأنا وحدي مع نفسي ، فلا أطيق تحمل إيذاء هذه البعوضة.
فثبت بما ذكرنا : أن ظهور نور عالم الغيب يقوي جوهر الروح ، ويفيد النفس استيلاء على عالم الجسم. وإذا ثبت هذا ، فجوهر النفس عند القرب من الموت ، لا بد وأن يلتجئ إلى الله تعالى ، فتحصل المكاشفة ، فيقوى جوهر النفس قوة لا تبالي بخراب كل العالم ، فكيف تبالي بخراب البدن الضعيف.
الحجة التاسعة : لو فنيت النفس بفناء الجسد ، لكانت النفس محتاجة إلى البدن ، في بقاء ذاتها ، وأما الجسد فهو محتاج إلى النفس لا في بقاء ذاته ، بل في بقاء صفاته. وهي : الكيفيات المزاجية وعلى هذا التقدير فيكون احتياج النفس إلى البدن ، أكثر من احتياج البدن إلى النفس. وما كان أكثر حاجة ، كان أخس مما هو أقل حاجة. فلو ماتت النفس بموت البدن ، لزم كون النفس أخس من البدن. وهذا باطل. لأن الجسد مع النفس يكون شريفا ، وبدون النفس يكون في غاية الخساسة. فثبت : أن النفس لا تموت بموت البدن.
الحجة العاشرة : إن موت البدن عبارة عن تغير الصفات القائمة بتلك الأجسام ، فإن موت البدن لا معنى له إلا زوال تلك الكيفية المزاجية ، وزوال تلك الأعراض المعتدلة. فنقول: تعلق تلك الأعراض بتلك الأجسام ، أكمل وأقوى من تعلقها بالنفس المتصرفة في تلك الأجسام. ولما لم يكن زوال تلك الأعراض فناء تلك الأجسام (٢) مع ما بينهما من التعلق القريب فلأن لا يكون موجبا فناء النفس مع ما بينهما من التعلق البعيد ، كان ذلك أولى.
__________________
(١) سقط (طا ، ل).
(٢) فناء النفس (ط).