والثاني : إنه لا يمتنع أن يقال : إن طائفة من النفوس المفارقة لأبدانها ، تكون مساوية لهذه النفوس الحاضرة ، مساواة في الجوهر وفي الصفات ، وكان هذا البدن الحاضر عظيم المشابهة بأبدان تلك النفوس المفارقة ، وكانت تلك النفوس المفارقة مشتاقة إلى تلك الأبدان المنقوصة (١) المنقضية ، فإذا دخل هذا البدن في الوجود ، تعلقت تلك النفوس المفارقة بهذا البدن ، ضربا من التعلق ، وصارت معينة لهذه النفوس القائمة في الحال ، على أحوالها وصفاتها ومهماتها. فإن كانت خيرة كانت تلك النفوس أعوانا للخير ، وهو المراد بملائكة الأرض ، وإن كانت شريرة كانت تلك النفوس أعوانا للشر ، وهو المراد بالشياطين ، الذين هم الأرواح الخبيثة الأرضية.
وأما القسم الثالث : وهو أن يحصل نفسان في بدن واحد. وتحصل نفس في أبدان كثيرة. فقد ذكرنا كيفية تقريره في الفصول السالفة.
واعلم : أن هذه المباحث إنما تتوجه على من يقول : النفس جوهر مجرد قائم بذاته (٢) لا تعلق لها بذلك البدن ، إلا على سبيل التصرف والتدبير.
ومن المباحث اللائقة بهذا الباب : أن يقال : إذا قلنا : إن النفس جوهر ليس بجسم ولا بجسماني ، ولا تعلق لها بهذا البدن ، إلا تعلق التصرف والتدبير. مثل تصرف الملك في البلدة ، والمالك في البيت. وثبت أيضا : أنه لا داعي للنفس على التصرف في هذا البدن ، إلا لأجل أن تستعمل هذه الأعضاء وهذه الآلات ، في تحصيل اللذات الجسمانية ، والراحات البدنية ، والشهوات النفسانية. فحينئذ جرى تعلق هذه النفس بهذا البدن ، مجرى من أراد أن يعمل عملا ، ولا يمكنه الإتيان بذلك العمل إلا بواسطة آلة مخصوصة. فهو يحب تلك الآلة ، ليتوصل بها إلى تحصيل ذلك العمل ، إلا أنه لا تكون محبته مقصورة على تلك الآلة بعينها ، بل إذا وجدت هذه الآلة صحيحة صالحة لذلك المقصود ، استعملها [فإن رأى آلة أصلح من الأولى ، ترك الأولى واستعمل
__________________
(١) المفروضة فإذا (م).
(٢) قائمة بذاتها (م).