الحجة الثانية لهم : قالوا : الحس دل على وجود المتحيز ، وعلى وجود الصفات القائمة به. وأما القسم الثالث ، فلا يمكن إثباته ، إلا لأجل افتقار أحد هذين القسمين إليه. لأن ما لا يكون العلم بوجوده بديهيا ، لم يجز المصير إلى إثباته ، إلا إذا قضى العقل باحتياج ما علم وجوده إليه. إلا أنا لما اعترفنا بأن الإله تعالى غير متحيز ، ولا حال في المتحيز ، كان وجوده كافيا في وجود هذه المتحيزات ، وفي وجود الأعراض القائمة بها. وإذا كان كذلك ، فلم يبق على وجود موجود [آخر (١)] غير متحيز ، ولا حال في المتحيز : دليل. وما لا دليل عليه أصلا ، كان القول بإثباته موجبا للجهالات.
الحجة الثالثة : وهي مختصة بنفي العقول والنفوس ـ قالوا : هذه العقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة. يزعمون : أنها قديمة [فهي غير متحيزة عن ذات الله تعالى ، لا بالزمان ولا بالمكان ، ولا بالوجود والعدم. لأن التقدير تقدير أنها قديمة (٢)] وإذا كان كذلك ، امتنع امتياز بعضها عن بعض في نفس الأمر ، وهذا يقتضي اتحاد الاثنين ، وهو محال.
واعلم : أن هذه الوجوه ضعيفة :
أما الحجة الأولى : فالجواب عنها : أن المساواة في كونه غير متحيز ، ولا حال في المتحيز : مساواة في الصفة السلبية ، لا توجب المساواة في تمام الماهية. والدليل عليه وجوه :
الأول : إن كل حقيقتين ، فلا بد وأن يشتركا في سلب كل ما عداهما عنهما ، وذلك برهان قاطع على أن المساواة في السلوب ، لا توجب المساواة في تمام الماهية.
الثاني : إن كل نوعين داخلين تحت جنس واحد ، فهما مشتركان في طبيعة ذلك الجنس ، ولم يلزم من حصول تلك المشاركة ، حصول المماثلة المطلقة.
__________________
(١) من (ل)
(٢) سقط (م)