والسلام (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِ) [مريم] بغير فاء؟
قلنا : أراد بالنداء هنا إرادة النداء فجاء بالفاء الدالة على السببية ، فإن إرادة النداء سبب للنداء ، فكأنه قال : وأراد نوح نداء ربه فقال كيت وكيت ، وأراد به في قصة زكريا عليه الصلاة والسلام حقيقة النداء ، فلهذا جاء بغير فاء لعدم ما يقتضي السببية.
فإن قيل : هود عليه الصلاة والسلام كان رسولا ولم يظهر معجزة ، ولهذا قال له قومه : (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) ([الآية ٥٣] فبأي شيء لزمتهم رسالته؟
قلنا : إنّما يحتاج الى المعجزة ، من الرسل ، من يكون صاحب شريعة لتنقاد أمّته لشريعته ، فإن في كل شريعة أحكاما غير معقولة فيحتاج الرسول الآتي بها ، الى معجزة لتشهد بصحة صدقه ، فأما الرسول الذي لا تكون له شريعة ولا يأمر إلّا بالعقليات فلا يحتاج الى معجزة ، لأن الناس ينقادون الى ما يأمرهم به لموافقته للعقل ، وهود (ع) كان كذلك. الثاني : أنه نقل أن معجزة هود كانت الريح الصرصر ، فإنها كانت سخّرت له.
فإن قيل : على الوجه الأول لو كان أمره لهم مقصورا على العقليات لما خالفوه وكذبوه ونسبوه الى الجنون ، بقولهم كما ورد في التنزيل (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) إلى (بِسُوءٍ).
قلنا : إنما صدر ذلك القول من قاصري العقول أو المعاندين المكابرين ، كما قيل ذلك لكل رسول بعد إتيانه بالمعجزات الظاهرات والآيات الباهرات.
فإن قيل : هل قوله تعالى : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا) [الآية ٥٤] لتتناسب الجملتان؟
قلنا : لأن إشهاد الله تعالى على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ، مفيد تأكيد التوحيد وشده معاقده ؛ وأما إشهادهم فما هو إلا تهكّم بهم وتهاون ودلالة على قلة المبالاة ، لأنهم ليسوا أهلا للشهادة ؛ فعدل به عن اللفظ الأول ، وأتى به على صورة التهكّم والتهاون ؛ كما يقول الرجل لصاحبه إذا لاحاه : اشهد إني لأحبك ، تهكّما به واستهانة له.
فإن قيل : قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) [الآية ٥٧] جعل التولّي