تقوية قلب النبيّ صلىاللهعليهوسلم بذكر من تقدّمه (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي : دعا نوح ربّه على قومه بأني مغلوب من جهة قومي لتمرّدهم عن الطاعة وزجرهم لي عن تبليغ الرسالة ، فانتصر لي ، أي : انتقم لي منهم. طلب من ربه سبحانه النصرة عليهم لمّا أيس من إجابتهم ، وعلم تمرّدهم وعتوّهم وإصرارهم على ضلالتهم. قرأ الجمهور (أَنِّي) بفتح الهمزة ، أي : بأني. وقرأ ابن أبي إسحاق والأعمش بكسر الهمزة ، ورويت هذه القراءة عن عاصم على تقدير إضمار القول ، أي : فقال. ثم ذكر سبحانه ما عاقبهم به فقال : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) أي : منصبّ انصبابا شديدا ، والهمر : الصبّ بكثرة ؛ يقال : همر الماء والدمع يهمر همرا وهمورا ؛ إذا كثر ، ومنه قول الشاعر :
أعينيّ جودا بالدّموع الهوامر |
|
على خير باد من معدّ وحاضر |
ومنه قول امرئ القيس يصف غيثا :
راح تمريه الصّبا ثم انتحى |
|
فيه شؤبوب جنوب منهمر (١) |
قرأ الجمهور : (فَفَتَحْنا) مخففا. وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أي : جعلنا الأرض كلها عيونا متفجرة ، والأصل : فجرنا عيون الأرض. قرأ الجمهور : (فَجَّرْنَا) بالتشديد ، وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة وعاصم في رواية عنه بالتخفيف. قال عبيد بن عمير : أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجّرت بالعيون (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي : التقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قضي عليهم ، أي : كائنا على حال قدّرها الله وقضى بها. وحكى ابن قتيبة أن المعنى على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر ، بل كان ماء السماء وماء الأرض على سواء. قال قتادة : قدّر لهم إذ كفروا أن يغرقوا. وقرأ الجحدري : فالتقى الماءان وقرأ الحسن فالتقى الماوان ورويت هذه القراءة عن عليّ بن أبي طالب ومحمد بن كعب. (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) أي : وحملنا نوحا على سفينة ذات ألواح ، وهي الأخشاب العريضة (وَدُسُرٍ) قال الزجاج : هي المسامير التي تشدّ بها الألواح ، واحدها دسار ، وكل شيء أدخل في شيء يشدّه فهو الدسر ، وكذا قال قتادة ومحمد بن كعب وابن زيد وسعيد بن جبير وغيرهم. وقال الحسن وشهر بن حوشب وعكرمة : الدسر : ظهر السفينة التي يضربها الموج ، سمّيت بذلك لأنها تدسر الماء ، أي : تدفعه ، والدّسر : الدفع ، وقال الليث : الدّسار : خيط تشدّ به ألواح السفينة. قال في الصحاح : الدّسار واحد الدسر ، وهي خيوط تشدّ بها ألواح السفينة ، ويقال : هي المسامير (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي : بمنظر ومرأى منا وحفظ لها ، كما في قوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) (٢) وقيل : بأمرنا ، وقيل : بوحينا ، وقيل : بالأعين النابعة من الأرض ، وقيل : بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) قال الفراء : فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثوابا لمن كفر به وجحد أمره ، وهو نوح عليهالسلام ،
__________________
(١). «راح» عاد في الرواح. «تمريه» : تستدرّه. «الشؤبوب» الدفعة من المطر.
(٢). هود : ٣٧.