والمعنى النفي ، أي : ليس كفاركم يا أهل مكة ، أو يا معشر العرب ، خير من كفار من تقدّمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم ، فكيف تطمعون في السلامة من العذاب وأنتم شرّ منهم. ثم أضرب سبحانه عن ذلك وانتقل إلى تبكيتهم بوجه آخر هو أشد من التبكيت بالوجه الأول ، فقال : (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) والزبر : هي الكتب المنزّلة على الأنبياء ، والمعنى : إنكار أن تكون لهم براءة من عذاب الله في شيء من كتب الأنبياء. ثم أضرب عن هذا التبكيت ، وانتقل إلى التبكيت لهم بوجه آخر ، فقال : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي : جماعة لا تطاق لكثرة عددنا وقوتنا ، أو أمرنا مجتمع لا نغلب ، وأفرد منتصرا اعتبارا بلفظ «جميع». قال الكلبي : المعنى : نحن جميع أمرنا ، ننتصر من أعدائنا ، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) أي : جمع كفار مكة ، أو كفار العرب على العموم. قرأ الجمهور «سيهزم» بالتحتية مبنيا للمفعول. وقرأ ورش عن يعقوب «سنهزم» بالنون وكسر الزاي ونصب الجمع. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بالتحتية مبنيا للفاعل ، وقرئ بالفوقية مبنيا للفاعل (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قرأ الجمهور : «يولون» بالتحتية ، وقرأ عيسى وابن أبي إسحاق وورش عن يعقوب بالفوقية على الخطاب ، والمراد بالدبر : الجنس ، وهو في معنى الإدبار ، وقد هزمهم الله يوم بدر وولّوا الأدبار ، وقتل رؤساء الشرك وأساطين الكفر ، فلله الحمد (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) أي : موعد عذابهم الأخرويّ ، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر هو تمام ما وعدوا به من العذاب ، وإنما هو مقدّمة من مقدماته ، وطليعة من طلائعه ، ولهذا قال : (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أي : وعذاب الساعة أعظم في الضرّ وأفظع ، مأخوذ من الدهاء ، وهو النكر والفظاعة ، ومعنى أمرّ : أشد مرارة من عذاب الدنيا ، يقال : دهاه أمر كذا ، أي : أصابه دهوا ودهيا (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي : في ذهاب عن الحق وبعد عنه ، وقد تقدّم في هذه السورة تفسير «وسعر» فلا نعيده (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) والظرف منتصب بما قبله ، أي : كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون ، أو بقول مقدّر بعده ، أي : يوم يسحبون يقال لهم : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي : قاسوا حرّها وشدّة عذابها ، وسقر : علم لجهنم. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بإدغام سين «مس» في سين «سقر» (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) قرأ الجمهور بنصب كل على الاشتغال. وقرأ أبو السّمال بالرفع ، والمعنى : أن كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه متلبسا بقدر قدّره وقضاء قضاه سبق في علمه ، مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه. والقدر : التقدير ، وقد قدّمنا الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى. (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي : إلا مرة واحدة ، أو كلمة كلمح بالبصر في سرعته ، واللمح : النظر على العجلة والسرعة. وفي الصحاح : لمحه وألمحه ؛ إذا أبصره بنظر خفيف ، والاسم اللمحة. قال الكلبي : وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أي : أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم ، وقيل : أتباعكم وأعوانكم (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يتذكّر ويتّعظ بالمواعظ ويعلم أن ذلك حق ، فيخاف العقوبة وأن يحل به ما حلّ بالأمم السالفة (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) أي : جميع ما فعلته الأمم من خير أو شرّ مكتوب في اللوح المحفوظ ، وقيل : في كتب الحفظة (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ