وليخزي الفاسقين بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا من قطع وترك ، والتقدير : وليخزي الفاسقين أذن في ذلك ، يدل على المحذوف قوله : (فَبِإِذْنِ اللهِ) وقد استدلّ بهذه الآية على جواز الاجتهاد وعلى تصويب المجتهدين ، والبحث مستوفى في كتب الأصول (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي : ما ردّه عليه من أموال الكفار ، يقال : فاء يفيء إذا رجع ، والضمير في «منهم» عائد إلى بني النضير (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) يقال : وجف الفرس والبعير يجف وجفا : وهو سرعة السير ، وأوجفه صاحبه : إذا حمله على السير السريع ، ومنه قول تميم بن مقبل :
مذاويد بالبيض الحديث صقالها |
|
عن الرّكب أحيانا إذا الرّكب أوجفوا |
وقال نصيب :
ألا ربّ ركب قد قطعت وجيفهم |
|
إليك ولو لا أنت لم يوجف الرّكب |
وما في (فَما أَوْجَفْتُمْ) نافية ، والفاء جواب الشرط إن كانت (ما) في قوله : (ما أَفاءَ اللهُ) شرطية ، وإن كانت موصولة فالفاء زائدة. و (مِنْ) في قوله : (مِنْ خَيْلٍ) زائدة للتأكيد ، والركاب : ما يركب من الإبل خاصة ، والمعنى : أن ما ردّ الله على رسوله من أموال بني النضير لم تركبوا لتحصيله خيلا ولا إبلا ، ولا تجشّمتم لها شقة ، ولا لقيتم بها حربا ولا مشقّة ، وإنما كانت من المدينة على ميلين ، فجعل الله سبحانه أموال بني النضير لرسوله صلىاللهعليهوسلم خاصة لهذا السبب ، فإنه افتتحها صلحا وأخذ أموالها ، وقد كان سأله المسلمون أن يقسم لهم فنزلت الآية (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) من أعدائه ، وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم دون أصحابه ؛ لكونهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب ، بل مشوا إليها مشيا ، ولم يقاسوا فيها شيئا من شدائد الحروب (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يسلّط من يشاء على من أراد ، ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (١) و (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) هذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان أنه لرسول الله صلىاللهعليهوسلم خاصة ، والتكرير لقصد التقرير والتأكيد ، ووضع أهل القرى موضع قوله : منهم أي : من بني النضير للإشعار بأن هذا الحكم لا يختصّ ببني النضير وحدهم ، بل هو حكم على كل قرية يفتحها رسول الله صلىاللهعليهوسلم صلحا ، ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب. قيل : والمراد بالقرى : بنو النضير وقريظة وفدك وخيبر. وقد تكلم أهل العلم في هذه الآية والتي قبلها؟ هل معناهما متفق أو مختلف ، فقيل : معناهما متفق كما ذكرنا ، وقيل : مختلف ، وفي ذلك كلام لأهل العلم طويل. قال ابن العربي : لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات. أما الآية الأولى ، وهي قوله : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) فهي خاصّة برسول الله صلىاللهعليهوسلم خالصة له ، وهي أموال بني النضير وما كان مثلها. وأما الآية الثانية ، وهي قوله : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) فهذا كلام مبتدأ غير الأوّل بمستحق غير الأول ، وإن اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت
__________________
(١). الأنبياء : ٢٣.