وإلّا فالحقّ أنّ البشارة كان شائعا ذائعا عندهم يعرفه أحبارهم بل عامتهم ، ولذا هاجر كثير منهم قبل مبعثه عن أوطانهم الى المدينة انتظارا لبعثته ، وإن لم يؤمنوا به بعده وفي ذلك نزل : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (١).
ويؤيده أنّ كثيرا ممّن أسلم من أهل الكتاب بل ممّن لم يسلم منهم قد أقرّ بذلك ، ونحن قد باحثنا مع كثير منهم فأقرّ جمع منهم بأنّ موسى قد وصّانا بل نؤمن بالنبي المبعوث في آخر الزمان إلّا أنه لم يجيء بعد وهو الذي تسمّونه بصاحب العصر عجّل الله فرجه.
ثمّ مع تسليم على عدم تنبيه موسى عليهالسلام على نسخ شريعته فلا نسلّم استحالة النسخ ، والتلبيس ممنوع بعد عدم التكليف به قبل وقوعه ، واحتمال تطّرقه إلى شرعنا مدفوع بالضرورة القطعية.
والدليل الثاني أيضا ضعيف للمنع مع أنه قد قال ذلك ، وقد سمعت انقطاع تواترهم ، بل قد ينسب وضع هذا القول الى ابن الراوندي (٢) ليعارض به دعوى
__________________
(١) البقرة : ٨٩.
(٢) ابن الراوندي أحمد بن يحيى بن إسحاق : فيلسوف مجاهر بالإلحاد من سكّان بغداد نسبته الى راوند من قرى أصبهان ، له مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام ، طلبه السلطان فهرب ، ولجأ الى لاوي اليهودي بالأهواز وصنّف له في مدة مقامه عنده كتابه الذي سمّاه «الدامغ للقرآن» ووضع كتابا في قدم العالم ونفى الصانع وغيرها التي عدّوها الى اثني عشر كتابا كلها في الطعن على الشريعة ، ولكن قال السيد المرتضى في الشافعي : إنّ ابن الراوندي قصد في الكتب المذكورة الطعن على المعتزلة ولا يعتقد هو إلّا مذهب الحق ، (الأعلام ج ص ٢٥٢ ، الكنى والألقاب ج ٢ ص ١١١.