فلما كان من الغداء أحضر الناس وحضر أبو جعفر ع وصار القواد والحجاب والخاصة والعمال لتهنئة المأمون وأبي جعفر فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة وفيها بنادق مسك وزعفران معجون في أجواف تلك البنادق وقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنية وإقطاعات فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصته فكان كل من وقع في يده بندقة أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فأطلق له ووضعت البدر فنثر ما فيها على القواد وغيرهم وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا وتقدم المأمون بالصدقة على كافة المسلمين ولم يزل مكرما لأبي جعفر ع معظما لقدره مدة حياته يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته.
وقد روى الناس أن أم الفضل كتبت إلى أبيها من المدينة تشكو أبا جعفر وتقول إنه يتسرى علي ويغيرني (١) فكتب إليها المأمون يا بنية إنا لم نزوجك أبا جعفر لنحرم عليه حلالا فلا تعاودي لذكر ما ذكرت بعدها.
ولما توجه أبو جعفر ع من بغداد منصرفا من عند المأمون ومعه أم الفضل قاصدا بها المدينة صار إلى شارع باب الكوفة ومعه الناس يشيعونه فانتهى إلى دار المسيب عند مغيب الشمس فنزل ودخل المسجد وكان في صحنه نبقة (٢) لم تحمل بعد فدعا بكوز فيه ماء فتوضأ في أصل النبقة وقام فصلى بالناس صلاة المغرب فقرأ في الأولى الحمد و (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) وقرأ في الثانية الحمد و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وقنت قبل ركوعه فيها وصلى الثالثة وتشهد وسلم ثم جلس هنيئة يذكر الله تعالى وقام من غير أن يعقب فصلى النوافل أربع ركعات وعقب بعدها وسجد سجدتي الشكر فلما انتهى إلى النبقة رآها الناس وقد حملت حملا حسنا فتعجبوا من ذلك وأكلوا منها فوجدوه نبقا حلواء لا عجم له وودعوه ومضى ع من وقته إلى المدينة فلم يزل بها إلى أن أشخصه المعتصم في أول سنة عشرين ومائتين إلى بغداد فأقام بها حتى توفي في آخر ذي القعدة من هذه السنة
__________________
(١) أغار أهله اي تزوج عليها.
(٢) النبقة واحدة النبق : شجر السدر والنخل وظاهر المراد هنا الثاني :