وفيه : أنّ القدر الثّابت من تكلّمه في المهد ، ما كان منه لبراءة امّه من الفحشاء (١) بعد اعتراض اليهود عليها وإشارتها إليه ، من قوله : ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾(٢) إلى آخر الآيات. وعلى هذا يمكن كون الحاضرين عنده قليلا من اليهود المعاندين ، فأخفوا هذه المعجزة عنادا ، أو خوفا من تكذيب سائر اليهود.
ولم يؤمن به أحد إلّا بعد بلوغه في العمر ثلاثين سنة أو أكثر ، وهؤلاء المؤمنون لم يطّلعوا على كراماته السّابقة ، وبقي الأمر مكتوما إلى أن أخبر به محمّد صلىاللهعليهوآله بالوحي من الله تعالى ، مع أنّه نقل عن جعفر بن أبي طالب أنّه لمّا قرأ على النّجاشي سورة مريم ، قال النّجاشي : لا تفاوت بين واقعة عيسى وبين المذكور في هذا الكلام بذرّة (٣) .
وأمّا تكلّمه في الكهولة ، فقد قال جمع : إنّه يكون بعد نزوله من السّماء في آخر الزّمان ؛ حيث إنّ سنّ الكهولة أربعون سنة ، وهو عليهالسلام [ قد ] رفع قبل بلوغه ذلك السّنّ (٤) .
روي أنّه لمّا بلغ عمره ثلاثين سنة أرسله الله إلى بني إسرائيل ، فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ، وفي قول : ثلاث سنين وستّة أشهر ، ثمّ رفع إلى السّماء (٥) . ولذا قيل : إنّ الآية نصّ في نزوله من السّماء (٦) .
وقال جمع : إنّ الكهل في اللّغة : ما اجتمع قوّته وكمل شبابه (٧) ، وهذا الحال في الإنسان ببلوغ ثلاثين سنة ، ثمّ يكون على حال الوقف لا يزيد ولا ينقص إلى أربعين ، فمبدأ الكهولة ثلاثون ، ومنتهاها أربعون. وعلى هذا ، كان بعثه في الكهولة ، وهذا القول هو الأظهر والاوفق بالآية.
ثمّ مدحه سبحانه بقوله : ﴿وَ﴾ هو ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قيل : في ذكر هذه الصّفة بعد الحالات الثّلاث دلالة على أنّها أعلى المراتب وأعظمها ؛ حيث إنّ المرء لا يكون صالحا على الإطلاق ، إلّا بكونه في جميع أفعاله وتروكه مواظبا على النّهج الأصلح الأكمل (٨) . ومن الواضح أنّ ذلك يتناول جميع المقامات العالية الدّينيّة والدّنيويّة ، وكمال أفعال القلوب والجوارح.
﴿قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما
يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)﴾
__________________
(٢) مريم : ١٩ / ٣٠.
(٣) تفسير الرازي ٨ : ٥٢.
(٤ و٥) . تفسير روح البيان ٢ : ٣٥.
(٦) تفسير الرازي ٨ : ٥٢.
(٧) تفسير الرازي ٨ : ٥١.
(٨) تفسير روح البيان ٢ : ٣٥.