الثالث : أنّ كون الدليل ظنّيا وإن استلزم كون الحاصل منه هو الظنّ ، لكنّه لا ينافي تعلّق القطع بمتعلّق الظنّ الحاصل منه ، مع كون الظنّ علّة لحدوث جعل الحكم أو تعيينه.
فهذا هو المراد من العبارة المذكورة لوضوح فساد الأوّلين ، وهو أيضا لا يستقيم إلاّ على مذهب المصوّبة ، وهم قوم يزعمون ـ على ما حكي عنهم كما في نهاية العلاّمة (١) ـ إنّه ليس لله سبحانه في الوقائع قبل اجتهاد المجتهد حكم معيّن ، في مقابلة المخطّئة وهم القائلون : بأنّ له تعالى في كلّ واقعة حكما معيّنا في الواقع قبل اجتهاد المجتهد ، فهذا الحكم المعيّن إن أدركه المجتهد كان مصيبا وله أجران ، وإن لم يدركه كان مخطئا وهو معذور في خطائه وله أجر واحد.
فظنّ المجتهد على مذهب المصوّبة إمّا علّة لحدوث الحكم الواقعي إن رجع النفي في العبارة المنقولة عنهم إلى المقيّد ، على معنى ألايكون في الواقعة قبل الاجتهاد حكم أصلا ، فإذا اجتهد وأدّى اجتهاده إلى شيء يصير ذلك حكمه الواقعي بجعل الشارع له حكما في تلك الحال ، كما يقتضيه بعض الحكايات لهذا المذهب ، أو علّة لتعيّنه إن رجع النفي إلى القيد ، كما يقتضيه بعض اخر من الحكايات ، وهو أنّ الله تعالى لعلمه القديم بعدد المجتهدين وعدد ارائهم الحاصلة باجتهاداتهم فجعل (٢) بحسب تعدّد تلك الاراء أحكاما في الواقع من غير أن يعيّن بعضا لبعض ، فإذا اجتهد المجتهدون وأدّى اجتهاد كلّ إلى شيء منها عيّنه حينئذ حكما واقعيّا في حقّه ، فعبارة الجواب على الاحتمال الأخير ينطبق على أحد هذين المعنيين من مقالة المصوّبة ، فلا يلائم مذهب المخطّئة فيكون فاسد الوضع على هذا المذهب.
__________________
(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢١٧ ( مخطوط ).
(٢) كذا في الأصل.