جلاله لم يجعل بناء الأرض وتدبير إنشائها إلى ملائكته ولا غيرهم من خاصّته ، وتولاّها بيد قدرته ورحمته ، وملأها من كنوز حلمه وعفوه ورأفته.
فاذكر أيّها الإنسان المتشرّف بنور الألباب ، المعترف بالإقرار بربّ الأرباب ، انّه لو كنت في دار الفناء فقيرا يتعذّر عليك تحصيل مسكن للبقاء ، يتحصّن فيه من حرّ الصّيف وبرد الشّتاء وما معك ثمن ولا أجرة العمارة للبناء.
فرحمك سلطان ذلك الزّمان ، وبني لك مسكنا بيده وملأه ممّا يحتاج إليه من الإحسان ، وما أتعب لك فيه قلبا ولا جسدا ولا قدما ولا يدا ولا أهلا ولا ولدا ، بل عمّره ، وأنت ما عرفت ذلك السّلطان ولا خدمته ، ثمّ دعاك لتسكن فيما عمّره بيده لك ، فسكنته ووجدته قد ملأه من ذخائر العناية بك.
فكيف كان يكون محبّتك لذلك السّلطان العظيم ، ومراقبتك لحقّه الجسيم ، واعترافك بإحسانه العميم ، فليكن الله جلّ جلاله عندك على أقلّ المراتب ، مثل ذلك السّلطان المملوك لربّك جلّ جلاله ، الّذي هو أصل المواهب.
أقول : وليكن كلّ يوم يأتي فيه وقت إنشاء المسكن الجديد كيوم العيد ، معترفا لمولاك المجيد بحقّه الشّامل للعبيد ، وكن مشغولا رحمك الله ذلك اليوم وغيره بالشكر له جل جلاله والتحميد والتمجيد.
وإيّاك وان يمرّ عليك مثل هذا اليوم وأنت متهاون بقدره ومتغافل عن مولاك وعظيم شأنه ومتثاقل عن واجب شكره ، فسقط من عين عنايته وتهون ، وتدخل تحت ذلّ ذمّه جل جلاله لك في قوله : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ) (١).
وتذكر رحمك الله انّك لو احتجت إلى فراش في دارك وبساط تجلس عليه لمسارّك ، ففرش لك ذلك الفراش وذلك البساط بيدك ، كيف تكون في المراقبة والمحبّة والخدمة له بنفسك ومالك ولسانك وأهلك وولدك ، فلا يكن الله جلّ جلاله عندك دون هذه الحال ، وقد بسط لك الأرض فراشا وجعل لك فيها معاشا.
__________________
(١) يوسف : ١٠٥.