الْكَفَرَةِ ، الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَكَ وَكَذَّبُوا رُسُلَكَ ، لكِنَّكَ أَخْرَجْتَنِي رَأْفَةً مِنْكَ وَتَحَنُّناً (١) عَلَيَّ لِلَّذِي سَبَقَ لِي مِنَ الْهُدَى ، الَّذِي فِيهِ يَسَّرْتَنِي ، وَفِيهِ أَنْشَأْتَنِي وَمِنْ قَبْلِ ذلِكَ رَؤُفْتَ بِي بِجَمِيلِ صُنْعِكَ وَسَوابِغِ نِعْمَتِكَ.
فَابْتَدَعْتَ خَلْقِي مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ، ثُمَّ أَسْكَنْتَنِي فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ، بَيْنَ لَحْمٍ وَجِلْدٍ وَدَمٍ ، لَمْ تُشْهِدْنِي بِخَلْقِي ، وَلَمْ تَجْعَلْ إِلَيَّ شَيْئاً مِنْ أَمْرِي.
ثُمَّ أَخْرَجْتَنِي إِلَى الدُّنْيا تامّاً سَوِيّاً ، وَحَفِظْتَنِي فِي الْمَهْدِ طِفْلاً صَبِيّاً ، وَرَزَقْتَنِي مِنَ الْغَذاءِ لَبَناً مَرِيّاً ، وَعَطَفْتَ عَلَيَّ قُلُوبَ الْحَواضِنِ (٢) ، وَكَفَّلْتَنِي الأُمَّهاتِ الرَّحائِمَ ، وَكَلَأْتَنِي (٣) مِنْ طَوارِقِ الْجانِّ وَسَلَّمْتَنِي مِنَ الزِّيادَةِ وَالنُّقْصانِ ، فَتَعالَيْتَ يا رَحِيمُ يا رَحْمانُ.
حَتّى إِذَا اسْتَهْلَلْتُ (٤) ناطِقاً بِالْكَلامِ ، أَتْمَمْتَ عَلَيَّ سَوابِغَ الْأَنْعامِ ، فَرَبَّيْتَنِي زائِداً فِي كُلِّ عامٍ ، حَتَّى إِذا كَمُلَتْ فِطْرَتِي ، وَاعْتَدَلَتْ سَرِيرَتِي ، أَوْجَبْتَ عَلَيَّ حُجَّتَكَ بِأَنْ أَلْهَمْتَنِي مَعْرِفَتِكَ وَرَوَّعْتَنِي (٥) بِعَجائِبِ فِطْرَتِكَ ، وَأَنْطَقْتَنِي لِما ذَرَأْتَ (٦) فِي سَمائِكَ وَأَرْضِكَ مِنْ بَدائِعِ خَلْقِكَ ، وَنَبَّهْتَنِي لِذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَواجِبِ طاعَتِكَ وَعِبادَتِكَ ، وَفَهَّمْتَنِي ما جائَتْ بِهِ رُسُلُكَ ، وَيَسَّرْتَ لِي تَقَبُّلَ مَرْضاتِكَ ، وَمَنَنْتَ عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذلِكَ بِعَوْنِكَ وَلُطْفِكَ.
ثُمَّ إِذْ خَلَقْتَنِي مِنْ حَرِّ الثَّرى (٧) لَمْ تَرْضَ لِي يا إِلهِي بِنِعْمَةٍ دُونَ أُخْرى ، وَرَزَقْتَنِي مِنْ أَنْواعِ الْمَعاشِ وَصُنُوفِ الرِّياشِ (٨) بِمَنِّكَ الْعَظِيمِ عَلَيَّ ،
__________________
(١) تحنّن : ترحّم.
(٢) الحاضنة : التي تقوم على الصغير في تربيته.
(٣) كلأه الله فلانا : حرسه وحفظه.
(٤) استهلّ الصبيّ : رفع صوته بالبكاء عند الولادة.
(٥) روعتني : ألقيت في روعي وقلبي عجائب خلقتك.
(٦) ذرء : خلق.
(٧) حرّ كل دار وارض : وسطها.
(٨) الرياش : اللباس الفاخر.