صنع ، فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره ، كمن نظر في شعر إنسان أو خطّه أو تصنيفه ورأى فيه الشاعر والمصنف ورأى آثاره من حيث هي آثاره لا من حيث إنه حبر وعفص (١) وزاج (٢) مرقوم على بياض ، فلا يكون له نظر إلى غير المصنف.
فكل العوالم تصنيف الله تعالى ، فمن نظر إليها من حيث إنها فعل الله وعرفها من حيث إنها فعل الله وأحبها من حيث إنها فعل الله ، لم يكن ناظرا إلّا في الله ولا عارفا إلّا بالله ، ولا محبّا إلّا لله ، وكان هو الموحّد الحق الذي لا يرى إلّا الله ، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه بل من حيث هو عبد الله.
فهذا هو الذي يقال فيه : فني في التوحيد ، فإنه فني من نفسه ، وإليه الإشارة بقول من قال : (كنا بنا ففنينا عنا فبقينا بلا نحن). فهذه معلومة عند ذوي البصائر ، أشكلت لضعف الأفهام عن دركها ، وقصور قدوة العلماء عن إيضاحها أو بيانها بعبارة مفهمة موصولة للغرض إلى الأفهام ، أو لاشتغالهم بأنفسهم ، واعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم ممّا لا يعنيهم.
فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله تعالى ، وانضم إليه أن المدركات كلّها التي هي شاهدة على الله إنما يدركها الإنسان في الصبي عند فقد العقل قليلا قليلا ، وهو مستغرق الهمّ في شهواته ، وقد أنس بمدركاته (٣) ومحسوساته وألفها ، فسقط وقعها من قلبه بطول الانس ، ولذلك إذا رأى على سبيل الفجأة حيوانا غريبا أو فعلا من أفعاله تعالى خارقا للعادة عجيبا انطلق لسانه بالمعرفة طبعا ، فقال : سبحان الله ، وهو يرى طول النهار نفسه وأعضاءه
__________________
(١) العفص : الذي يتخذ منه الحبر ، مولّد. مختار الصحاح : ٢٤٢ ـ عفص.
(٢) الزاج : الشبّ اليماني ، وهو من أخلاط الحبر. لسان العرب ٦ : ١٠٩ ـ زوج.
(٣) في «ح» بعدها : الإنسان.