ملأ كتابيهما من التشنيع على مجتهدي الأصحاب ، وأسهبوا في ذلك أيّ إسهاب.
وأنت خبير بأن الاختلاف الناشئ من هذا النوع لو أوجب قدحا وجرحا لكان ذلك مشتركا بين الفريقين ، فلا وجه لتشنيع أحدهما على الآخر بذلك في البين ، إلّا إن الحقّ أنه لا يوجب ذلك ؛ إذ لا يخفى أنه قد استفاضت الأخبار عن الأئمَّة الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ أن مراتب الناس في الأفهام والعقول المفاضة من الملك العلام متفاوتة ، ودرجاتهم فيها متفاضلة ، وأنه تعالى إنما يحاسب الناس ويداقّهم على قدر ما آتاهم (١) من العقول والأفهام (٢) ، والتكليف الإلهي إنما وقع على حسب ما رزقهم منها.
وقد تقدّم شطر من تلك الأخبار ، ومن أوضح ما يدلّ على ذلك ما رواه في (الكافي) في كتاب العقل بسنده عن إسحاق بن عمار قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل آتيه واكلّمه ببعض كلامي فيعرفه كلّه ، ومنهم من آتيه فاكلّمه بالكلام فيستوفي كلامي كلّه ، ومنهم من آتيه فاكلّمه فيقول : أعد عليّ. فقال : «يا إسحاق ، وما تدري لم هذا؟». قلت : لا. فقال : «الّذي تكلّمه ببعض كلامك فيعرفه كلّه فذاك من عجنت نطفته بعقله ، وأمّا الّذي يستوفي كلامك ثم يجيبك على كلامك ، فذاك الذي ركب عقله في بطن امّه ، وإما الذي تكلّمه بالكلام ، فيقول : أعد عليّ ، فذاك الّذي ركب عقله فيه بعد ما كبر ، فهو يقول لك : أعد عليّ» (٣).
وحينئذ ، فنقول : إن الفقيه إذا نظر في الدليل الوارد من (الكتاب) والسنّة على حكم من الأحكام ، وبذل وسعه في طلب ما يتعلّق به من مناف أو مخصّص أو مقيّد أو مؤيّد أو قرينة أو نحو ذلك مما يتعلق بالمقام ، وأدّاه نظره وفهمه إلى وجه
__________________
(١) في «ح» : اتاه.
(٢) انظر الكافي ١ : ١١ / ٧.
(٣) الكافي ١ : ٢٦ / ٢٧.