فى الرأى والفهم ، وهو مما فطر عليه البشر ، وإلى ذلك الإشارة بقوله : «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» إذ أن العقول والأفهام ليست متساوية ، فالأسرة الواحدة تختلف أفهام أفرادها فى الشيء الواحد ، كما يختلف حبهم له ، وميلهم إليه. وهذا ضرب لا ضرر فيه.
(٢) ضرب جدّت الشرائع فى هدمه ومحوه ، وهو تحكيم الرأى والهوى فى أمور الدين وشئون الحياة.
وهاك مثلا يتضح لك به ما تقدم ـ قد اختلف الأئمة المجتهدون فى فهم كثير من نصوص الدين من كتاب وسنة ، وما كان فى ذلك من حرج ، فما لك نشأ فى المدينة ورأى ما كان عليه أهلها من صلاح وسلامة قلب ، فقال : إن عمل أهلها أصل من أصول الدين ، لأنهم لقرب عهدهم من النبي صلى الله عليه وسلم لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة فى العمل ، وأبو حنيفة نشأ فى العراق وأهلها أهل شقاق ونفاق ، فلم يجعل عملهم ولا عمل غيرهم حجة ، ولو اجتمع هذان الإمامان لعذر كل منهما صاحبه فيما رأى ، لأنه بذل جهده فى بيان وجه الحق مع الإخلاص لله ، وإرادة الخير والطاعة لأمره ، ولكن جاءت بعد هؤلاء فرق من المسلمين قلدتهم فيما نقل عنهم ، ولم تقلدهم فى سيرتهم ، وحكموا الرأى والهوى فى الدين ، وتفرقوا شيعا ، كل فريق يتعصب لرأى فيما وقع من أوجه الخلاف ، ويعادى المخالف له حتى حدث من ذلك ما نرى ، وما ذاك إلا لأن الحق لم يكن هو مطلب المتعصبين ، فليس من المعقول أن أبا حنيفة أصاب فى كل ما خالف فيه غيره من الأئمة ، وأن الشافعي ومالكا أخطئا فى جميع ما خالفا فيه أبا حنيفة.
وإذا فكيف يمضى نحو أربعة عشر قرنا ولا يستبين لفقهاء مذهبه وجه الصواب فى بعض المسائل الخلافية ، فيرجحون بعض آراء المذاهب الأخرى على مذهبه فى تلك المسائل ، ويرجعون إلى الصواب فيها.