(وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك الملازمون للنار لا ينفكون عنها ، لأن ظلمة أرواحهم ، وفساد عقائدهم ، وسوء أعمالهم ، اقتضت خلودهم فى تلك الهاوية المظلمة المستعرة التي وقودها الناس والحجارة ، قد أعدت لكل من جحد بآيات ربه ، وأعرض عن دعوة أنبيائه ورسله ، ولم يصغ إلا لداعى الهوى والشهوات.
وبعد أن أبان أن أموالهم لا تغنى عنهم شيئا ، ذكر أن ما ينفقونه من المال فى سبل الخير لا يجديهم ليزيل ما ربما علق بالبال من أنهم ينتفعون به ، وضرب لذلك مثلا فقال :
(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) أي إن ما ينفقونه فى اللذات ، ونشر الصيت ، واكتساب الشهرة ، وتأييد الكلمة ، فيصدهم عن سبيل الله ، ويفسد عقولهم وأخلاقهم التي هى عماد المنافع ، كمثل ريح باردة أصابت حرث قوم فأهلكته.
وخلاصة ذلك ـ أن حالهم فيما ينفقون وإن كان فى الخير كحال الريح الشديدة البرد التي تهلك الزرع ، فهؤلاء لا يستفيدون من نفقتهم شيئا ، كما أن أصحاب ذلك الزرع كذلك.
فهم إذا أنفقوا أموالهم فى بناء الحصون والقلاع لصد العدو ، وإقامة القناطر لحفظ المياه وأمن الطريق ، وفى الإحسان إلى الضعفاء واليتامى وذوى الحاجات ، ورجوا من ذلك الثواب الجزيل ، ثم قدموا إلى الآخرة ورأوا كفرهم قد أبطل آثار ذلك الخير ، كانوا كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كثيرا ، فأصابته ريح فأحرقته ، فلا يبقى له إلا الحسرة والندامة ، ونحو الآية قوله : «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» وقوله : «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً».
وجماع هذا كله قوله : «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ».