وقد كان فيمن خوطبوا بهذه الآية جماعة ممن كانوا فى المرتبة العليا من صدق الجهاد والصبر على المكاره ، وأولئك هم المجاهدون الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثبات الجبال الراسيات ، وهم نحو ثلاثين رجلا ، لكنه جعل الخطاب عاما ليكون الإرشاد والنصح عاما للجميع ، فيتهم ذو المراتب العالية أنفسهم بالتقصير ، فيزدادوا كمالا على كمالهم ، ويرعوى المقصرون وينزعوا عن خداع أنفسهم لهم ، وهذا من التمحيص العظيم الذي له أجمل العواقب فى تهذيب الأنفس ، وقد ظهر أثر ذلك فى نفوس أولئك القوم فيما بعد ، وربّاهم تربية كانت بها عزائمهم ماضية ، وهممهم صادقة ، فلم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا فيما حاولوه من جسيم الأمور.
(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟) أي إن محمدا ليس إلا بشرا قد مضت الرسل قبله فماتوا وقتل بعضهم كزكريا ويحيي ؛ ولم يكتب لأحد منهم الخلد.
أفإن مات كما مات موسى وعيسى وغيرهما من النبيين ، أو قتل كما قتل زكريا ويحيى ، تقلبوا على أعقابكم راجعين عما كنتم عليه؟ والرسول ليس مقصودا لذاته ، بل المقصود ما أرسل به من الهداية التي يجب على الناس أن يتبعوها.
قال أنس بن النضر فى الساعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر ، وبلغت القلوب فيها الحناجر ، وحين فشا فى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، وقال بعض ضعفاء المؤمنين : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبىّ فيأخذ لنا أمانا من أبى سفيان ، وقال ناس من أهل النفاق : إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول (إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه) ثم قال [اللهم إنى أعتذر إليك مما قال هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه]
وأما المؤمنون الصادقون الموقنون ، فمنهم من ثبت معه ، ومنهم من كان بعيدا