فهذه الأوصاف شروط فى النهى عن اتخاذ البطانة من غير المسلمين ، فإذا اعتراها تغيّر وتبدل كما وقع من اليهود ، فبعد أن كانوا فى صدر الإسلام أشد الناس عداوة للذين آمنوا ـ انقلبوا فصاروا عونا للمسلمين فى فتوح الأندلس ، وكما وقع من القبط إذ صاروا عونا للمسلمين على الروم فى فتح مصر ـ فلا يمتنع حينئذ اتخاذهم أولياء وبطانة للمسلمين ، فقد جعل عمر بن الخطاب رجال دواوينه من الروم ، وجرى الخلفاء من بعده على ذلك ، إلى أن نقل عبد الملك بن مروان الدواوين من الرومية إلى العربية.
وعلى هذه السنة جرى العباسيون وغيرهم من ملوك المسلمين فى نوط أعمال الدولة باليهود والنصارى حتى العصر الحاضر ، فإن كثيرا من سفراء الدولة العثمانية ووكلائها من النصارى.
ومع كل هذا يرمينا الأجانب بالتعصب ، ويقولون : إن الإسلام لا تساهل فيه.
وهذا النهى المقيد بتلك الأوصاف شبيه بالنهى عن اتخاذ الكفار أنصارا وأولياء فى قوله : «لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».
(قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحة التي يتميز بها الولي من العدو ، ومن يصح أن يتخذ بطانة ، ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته ، وسوء عاقبة مباطنته ، إن كنتم تدركون حقائق هذه الآيات التي تفرق بين الأعداء والأولياء ، وتعلمون قدر مواعظ الله وحسن عواقبها.
ثم ذكر نوعا آخر من التحذير عن مخالطة الكافرين واتخاذهم بطانة ، وفيه تنبيه لهم على خطئهم فى ذلك ، وقد ضمنه أمورا ثلاثة كل منها يستدعى الكفّ عن مخالطتهم.