بالإشارة هنا أن الله سخر لسليمان طائفة من الجن وطائفة من الطير ، كما سخر له طائفة من الإنس ، وكما أنه لم ، يكن كل أهل الأرض من الإنس جندا لسليمان ، إذ إن ملكه لم يتجاوز ما يعرف الآن بفلسطين ولبنان وسورية والعراق إلى ضفة الفرات ، فكذلك لم يكن جميع الجن ، ولا جميع الطير مسخرين له ، إنما كانت طائفة من كل أمة على السواء ونستدل في مسألة الجن إلى أن إبليس وذريته من الجن كما قال القرآن : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) وقال : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) ، وهؤلاء كانوا يزاولون الإغراء والشر والوسوسة للبشر في عهد سليمان ، وما كانوا ليزاولون هذا ، وهم مسخرون له مقيدون بأمره ، وهو نبيّ يدعو إلى الهدى ، فالمفهوم إذن أن طائفة من الجن هي التي كانت مسخرة له ، ونستدل في مسألة الطير إلى أن سليمان حين تفقد الطير علم بغيبة الهدهد ، ولو كانت جميع الطيور مسخّرة له ، محشورة في موكبه ، ومنها جميع الهداهد ، ما استطاع أن يتبيّن غيبة هدهد واحد من ملايين الهداهد ، هذا فضلا عن بلايين الطير ، ولما قال : ما لي لا أرى الهدهد ، فهو إذن هدهد خاص بشخصه وذاته ، وقد يكون هو الذي سخر لسليمان من أمة الهداهد ، أو يكون صاحب النوبة في ذلك الموكب من المجموعة المحدودة العدد من جنسه ، ويعين على هذا ما ظهر من أن هذا الهدهد موهوب إدراكا خاصا ليس من نوع إدراك الهداهد ، ولا الطير بصفة عامة ، ولا بد أن هذه الهبة كانت للطائفة الخاصة التي سخرت لسليمان ، لا لجميع الهداهد وجميع الطيور ، فإن نوع الإدراك الذي ظهر من ذلك الهدهد الخاص في مستوى يعادل مستوى العقلاء الأذكياء الأتقياء من الناس (١).
ومنها (ثالثا) تسخير الريح له ، قال تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً
__________________
(١) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٣٥ ـ ٢٦٣٦.