وقد اختلف العلماء فيما لأجله تفقده على وجوه ، أحدها قول وهب : أنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها فلذلك تفقده ، وثانيها أنه تفقده لأن مقاييس الماء كانت إليه ، وكان يعرف الفصل بين قريبه وبعيده ، فلحاجة سليمان إلى ذلك طلبه وتفقده (١) ، وثالثها أنه كان يظله من الشمس ، فلما فقد ذلك تفقده (٢) ، ولعل في هذا ما يشير إلى أنه هدهد خاص معين في نوبته ، وليس هدهدا ما من تلك الألوف أو الملايين التي تحويها الأرض من أمة الهداهد ، كما ندرك من افتقاد سليمان لهذا الهدهد سمة من سمات شخصيته ، سمة اليقظة والدقة والحزم ، فهو لم يغفل عن غيبة جندي من هذا الحشر الضخم من الجن والإنس والطير الذي يجمع آخره على أوله كي لا يتفرق وينتكث ، وهو يسأل عنه في صيغة مرتفعة مرنة جامعة «ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين» ويتضح أنه غائب ويعلم الجميع من سؤال الملك عنه أنه غائب بغير إذن ، وحينئذ يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم كي لا تكون فوضى ، ومن ثم نجد سليمان الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف «لأعذبنه عذابا شديدا ، أو لأذبحنه» ، ولكن سليمان ليس ملكا جبارا في الأرض ، إنما هو نبي ، وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب ، فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائيا قبل أن يسمع ويتبيّن عذره ، ومن ثم تبدر سمة النبي العادل «أو ليأتيني بسلطان مبين» أي حجة قوية توضح عذره ، وتنفي المؤاخذة عنه (٣).
__________________
(١) جاء في تفسير الطبري (١٩ / ١٤٤) اختلف عبد الله بن سلام والقائلون بقوله ، ووهب بن منتبه ، فقال عبد الله : كان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه ليستخبره عن بعد الماء في الوادي الذي نزل به في مسيره ، وقال وهب : كان تفقده إياه وسؤاله عنه لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها ، والله أعلم ، كما يقول الطبري ، بأي ذلك كان إذ لم يأتنا بأي ذلك كان تنزيل ، ولا خبر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم صحيح ، والصواب أن يقال إن الله أخبر عن سليمان أنه تفقد الطير ، إما للنوبة التي كانت عليها وأخلت بها ، وإما لحاجة كانت إليها عن بعد الهاء.
(٢) تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٩.
(٣) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٣٨.