ويأتي الهدهد بعد مكث غير بعيد ، فيقول للنبي الكريم «أحطت بما لم تحط به» ، وفي هذا ، كما يقول الإمام الفخر الرازي ، تنبيه لسليمان على أن من أدنى خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط ، فيكون ذلك لطفا في ترك الإعجاب ، والإحاطة بالشيء علما أن يعلم من جميع جهاته (١) ، ثم يخبره بهذا الذي لم يحط به (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ ، وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) ، أي أنني أتيت من سبأ ـ وهي مملكة عظيمة في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية ـ وقد وجدت القوم تحكمهم امرأة» (٢) أوتيت من كل شيء» ، كناية عن عظمة ملكها وثرائها وتوافر أسباب الحضارة والقوة والمتاع ، «ولها عرش عظيم» أي سرير ملك فخم ضخم يدل على الغنى والترف وارتقاء الصناعة أو عظيم في قدره وعظم خطره ، لا عظمة في الكبر والسعة ، لكن هذه المرأة وقومها (يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) ، وهنا نجد أنفسنا أمام هدهد عجيب ، صاحب ذكاء وإيمان ، وبراعة في عرض النبأ ، ويقظة إلى طبيعة موقفه وتلميح وإيماء أريب ، فهو يدرك أن هذه ملكة وأن هؤلاء رعية ، ويدرك أنهم يسجدون للشمس من دون الله ، ويدرك أن السجود لا يكون إلا لله رب العرش العظيم ، وما هكذا تدرك الهداهد ، إنما هو هدهد خاص أوتي هذا الإدراك الخاص ، على سبيل الخارقة التي تخالف المألوف (٣).
ومن ثم فقد أراد النبي الكريم أن يختبر صدق الهدهد في دعواه ، وفي
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ١٩٠.
(٢) روي البخاري والترمذي والنسائي بسنده عن أبي بكرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم ابنة كسرى قال : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة (البداية والنهاية ٢ / ٢٢).
(٣) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٣٨ ، وانظر تفسير الطبري ١٩ / ١٤٨.