فعرض عليها عرشها وقيل لها : أهكذا عرشك ، فأجابت : كأنه هو ، لا تنفي ولا تثبت ، مما يدل على فراسة وبديهية في مواجهة المفاجأة العجيبة ، فضلا عن غزارة في الفهم وقوة في الملاحظة ، فلقد استبعدت أن يكون عرشها لأنها خلفته وراءها بأرض اليمن ، ولم تكن تعلم أن أحدا يقدر على هذا الصنع العجيب ، قال النسفي : أجابت أحسن جواب ، فلم تقل هو هو ، ولا ليس به ، وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتمل للأمرين ، أو لما شبهوا عليها بقولهم : أهكذا عرشك شبهت عليهم بقولها : كأنه هو ، مع أنها علمت أنه عرشها ، ثم كانت في انتظارها مفاجأة أخرى ، فلقد أمر سليمان بأن يقام لها صرح من قوارير (زجاج) تجري تحته المياه حتى يحسبه من لا يعرف أمره أنه ماء (١).
وهكذا ما إن وصلت الملكة السبئية إلى القدس ، عاصمة سليمان ، حتى وجدت أمامها مفاجأتين ، الواحدة عرشها ، وقد نكر لها ، والأخرى ذلك الصرح الزجاجي الذي تجري المياه من تحته ، أو ذلك القصر البلوري ، الذي أقيمت أرضيته فوق الماء ، فظهر وكأنه لجة ، فلما قيل لهما : ادخلي الصرح ، حسبت أنها ستخوض تلك اللجة فكشفت عن ساقيها ، فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها «قال إنه صرح ممرد من قوارير» ، وكل من المفاجأتين إنما تدل على أن سليمان مسخر له قوى أكبر من طاعة البشر ، فرجعت إلى الله وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره ، معلنة إسلامها مع سليمان ، لا لسليمان ، ولكن «لله رب العالمين» (٢) ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ، وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ، وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ
__________________
(١) تفسير النسفي ٣ / ٢١٤ ، الصابوني : المرجع السابق ص ٢٩٣ ـ ٢٩٤.
(٢) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٤٣.