عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا ، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ، فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (١) ، وقد اختلف في المنادى على قولين ، الأول أنه عيسى عليهالسلام ، وهو قول الحسن البصري وسعيد بن جبير ، واستظهر أبو حيان كون المنادى عيسى ، والضمير لمريم ، والفاء فصيحة ، أي فولدت غلاما فأنطقه الله تعالى حين الولادة ، فنادها المولود من تحتها ، وروى ذلك أيضا عن مجاهد ووهب وابن جرير وابن زيد ، والثاني أنه جبريل ، ونقل في البحر عن الحسن أنه قال : ناداها جبريل وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها ، ولعله إنما كان موقفه هناك إجلالا لها ، وتحاشيا من حضوره بين يديها في تلك الحال ، والقول بأنه عليهالسلام كان تحتها يقبل الولد مما لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة ما لا يليق بشأن أمين وحي الملك المتعال ، ويعضد الفخر الرازي القول الأول بأدلة منها : الأول أن قوله : (فَناداها مِنْ تَحْتِها) بفتح الميم ، إنما يستعمل إذا كان قد علم قبل ذلك أن تحتها أحدا ، والذي علم كونه حاصلا تحتها هو عيسي عليهالسلام فوجب حمل اللفظ عليه ، وأما القراءة بكسر الميم فهي لا تقتضي كون المنادى جبريل عليهالسلام ، والثاني : أن ذلك الموضع موضع اللوث والنظر إلى العورة ، وذلك لا يليق بالملائكة ، والثالث : أن قوله فناداها فعل ، ولا بد أن يكون فاعله قد تقدم ذكره ، ولقد تقدم قبل هذه الآية ذكر جبريل وعيسى عليهماالسلام ، إلا أن ذكر عيسى أقرب لقوله تعالى : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ) والضمير هنا عائد إلى المسيح فحمله عليه أولى ، والرابع : هو دليل الإمام الحسن بن علي عليهالسلام ، أن عيسى لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق ، فما كانت تشير إلى عيسى عليهالسلام بالكلام ، فأما من قال إن المنادى هو عيسى عليهالسلام ، فالمعنى أنه تعالى أنطقه لها حين وضعته تطيبا لقلبها وإزالة للوحشة عنها ، حتى تشاهد في أول الأمر ما
__________________
(١) سورة مريم : آية ٢٤ ـ ٢٦.