شاء الله تعالى أن يخرق هذه القاعدة المختارة في فرد من بني الإنسان ، فينشئه نشأة قريبة وشبيهة بالنشأة الأولى ، وإن لم تكن مثلها تماما ، أنثى فقط تتلقى النفخة التي تنشئ الحياة ابتداء ، فتنشأ فيها الحياة (١) ، وهكذا جاء عيسى بن مريم إلى هذه الدنيا بطريقة أشبه بتلك التي جاء بها آدم عليهالسلام ، وصدق الله العظيم حيث يقول : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢).
صحيح أن ولادة عيسى عجيبة حقا بالقياس إلى مألوف الناس ، ولكنه صحيح كذلك أنه لا غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي البشر ، وأهل الكتاب الذين يناظرون ويجادلون حول عيسى بسبب مولده ، ويصوغون حوله الأوهام والأساطير بسبب أنه نشأ من غير أب ، أهل الكتاب هؤلاء كانوا يقرون بنشأة آدم من التراب ، وأن النفخة من روح الله هي التي جعلت منه هذا الكائن الإنساني ، دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى ، ودون أن يقولوا عن آدم : إن له طبيعة لاهوتية ، على حين أن العنصر الذي صار به آدم إنسانا هو ذاته العنصر الذي ولد به عيسى من غير أب ، عنصر النفخة الإلهية في هذا وذاك ، وإن هي إلا الكلمة «كن» تنشئ ما تراد له النشأة «فيكون» وهكذا تتجلى بساطة هذه الحقيقة ، حقيقة عيسى وحقيقة آدم وحقيقة الخلق كله ، وتدخل إلى النفس في يسر ، وفي وضوح ، حتى ليعجب الإنسان ، كيف ثار الجدل حول هذا الحادث ، وهو جار وفق السنة الكبرى ، سنة الخلق والنشأة جميعا (٣).
__________________
(١) في ظلال القرآن ١ / ٣٩٨.
(٢) سورة آل عمران : آية ٥٩ ، وانظر : تفسير الفخر الرازي ٨ / ٧٤ ـ ٧٦ ، تفسير الطبري ٣ / ٢٩٥ ـ ٢٩٧ ، تفسير ابن كثير ١ / ٥٥٠ ـ ٥٥٢ ، تفسير النسفي ١ / ١٦٠ ـ ١٦١ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٨٦ ـ ١٨٧.
(٣) في ظلال القرآن ١ / ٤٠٤ ـ ٤٠٥.