وقد قال بعض العلماء : لم ينسخ منها شيئا ، وإنما أحل لهم بعض ما كان يتنازعون فيه خطأ وانكشف لهم عن الغطاء في ذلك ، كما قال في الآية الأخرى : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) (١) ، ويقول الطبري : إن عيسى كان مؤمنا بالتوراة مقرابها ، وأنها من عند الله (٢) ، وكذلك الأنبياء كلهم يصدقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورسله ، وإن اختلفت بعض شرائع أحكامهم لمخالفة الله بينهم في ذلك ، مع أن عيسى كان ، فيما بلغنا ، عاملا بالتوراة لم يخالف شيئا من أحكامها ، إلا ما خفف الله عن أهلها في الإنجيل ، مما كان مشددا عليهم فيها (٣) ، وجاء في التفسير الكبير عن وهب بن منبه : أن عيسى عليهالسلام كان على شريعة موسى عليهالسلام ، كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس ، ثم إنه فسر قوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) بأمرين ، أحدهما : أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند
__________________
(١) تفسير ابن كثير ١ / ٥٤٦.
(٢) نرى لزاما علينا أن نبيّن هنا : أن التوراة التي كان عيسى عليهالسلام مؤمنا بها مقرا بما فيها ، إنما هي التوراة التي أنزلها الله على موسى عليهالسلام ، فيها هدى ونور ، فهي تقرر وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن كل مظاهر النقص ، والتي ترتكز على الاعتراف باليوم الآخر ، والإيمان بما فيه من ثواب وعقاب وجنة ونار ، والتي تضمنت عظات وأفكار وشريعة لبني إسرائيل يحكم بها أبناؤهم ، والتي تقرر عصمة هؤلاء الأنبياء ، غير أن هذه التوراة الأصلية ببنودها ونصوصها وتعاليمها ، لا وجود لها بهذه الصورة الإلهية في التوراة المتداولة اليوم ، فلقد امتدت إليها يد أثيمة من أحبار يهود فحرفت وبدلت ، ثم كتبت سواها بما يتلاءم مع يهود ، ويتواءم مع مخططاتهم ، ثم زعموا بعد كل هذا ، أنها التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليهالسلام : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) ، هذا فضلا عن أن توراة موسى شيء ، والعهد القديم شيء آخر ، فالتوراة لا تعدو خمسة أسفار من أسفار العهد القديم ، البالغ عددها ٣٩ سفرا ، عند البروتستانت ، وأكثر من ذلك بسبعة أسفار ، عند الكاثوليك ، فضلا عن أسفار الأبوكريفا ، والأسفار المفقودة أو الخفية (قدم المؤلف دراسة مفصلة عن التوراة : أنظر : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ١ ـ ٣٧٩ ـ الاسكندرية ١٩٧٩).
(٣) تفسير الطبري ٣ / ٢٨١.