وحرمت عليهم شحوم الإبل فأحلت لهم فيما جاء به عيسى ، وفي أشياء من السمك وفي أشياء من الطير ، مما لا صيصة له ، وفي أشياء أخرى حرمها عليهم وشدد عليهم فيها ، فجاء عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل ، وهذا يدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام تغاير ما في التوراة ، وأن شريعة عيسى نسخت بعض شريعة موسى ، ولا يخل ذلك بكونه مصدقا للتوراة ، فإن النسخ بيان لانتهاء زمان الحكم الأول ، لا رفع وإبطال (١).
هذا وقد جاء في إنجيل متى ، على لسان السيد المسيح ، «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل ، فإن الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (٢) وليس هناك من شك في أن التصديق بالكتب السابقة يعني أن الكتب المتأخرة إنما هي تجديد للمتقدمة وتذكير بها ، فلا تبدل معنى ولا تغير حكما ، وإنما الواقع غير ذلك ، فقد جاء الإنجيل بتغيير بعض أحكام التوراة ، كما جاء القرآن بتبديل بعض أحكام الإنجيل ، ولكن يجب أن يفهم أن هذا وذاك لم يكن من المتأخرة نقصا للمتقدم ، ولا إنكارا لحكمة أحكامه في إبانها ، وإنما كان وقوفا عند وقتها المناسب ، وأجلها المقدر (٣) ، ومن هنا كان قول سيدنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق» (٤).
وهكذا يمكن القول أن الإنجيل إنما كان نفحة إحياء وتجديد لروح الدين ، وتهذيب لضمير الإنسان ، بوصلة مباشرة بالله من وراء النصوص ،
__________________
(١) تفسير روح المعاني ٣ / ١٧١ ، تفسير الطبري ١ / ٢٨٢.
(٢) إنجيل ٥ / ١٧ ـ ١٨.
(٣) محمد عبد الله دزار : الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان ـ القاهرة ١٩٦٩ ص ١٨٥ ـ ١٨٦.
(٤) عبد الحليم محمود : دلائل النبوة ومعجزات الرسول ـ القاهرة ١٩٧٤ ص ٤٦٢.